من يحن للماضي الأليم؟ ولماذا هذا الرجوع المكثف للتدخل القمعي لتشتيت حتى الوقفات السلمية الرمزية التي لا يتعدى عددها 50 شخصا ؟ ألا يعد هذا الحنين إلى الماضي انتصار المخزن من جديد، والتحرر من تركة أحفاد بن زكري، ومن كل الآمال والطموحات التي زرعها المرحوم؟
إن كل توصيات الإنصاف والمصالحة، باتت اليوم قاب قوسين أو أدنى. حيث باتت الحماية الدستورية لحقوق الإنسان منتهكة، و العدالة الانتقالية معطوبة، وتراكمات النضال الحقوقي مدنسة، والعدالة الاجتماعية موقوفة، والجرائم الاقتصادية والاجتماعية مستمرة، ونهب ودائع العمال والمتقاعدين وذوي الحقوق في صناديق التقاعد ومؤسسات الشؤون الاجتماعية حقيقة، وضرب القوة الشرائية للمواطنين مستمرة، وقمع المعطلين ضريبة، والاستهتار بحقوق الشباب فريضة، وتخوين الحركات الاحتجاجية موضة، وتعميق الهوة بين الطبقات الاجتماعية مصيبة، واحتقار الكفاءات وتشويه سمعتها لازمة، وتمييع الساحة السياسية والمؤسسات الحكومية، وجعلها ملجأ للمنبوذين والتافهين والفاسدين وفاقدي الشرعية والضمير، وترقيتهم لإعادة إنتاج خدام الدولة والمخزن، فضلا عن الفساد وتبذير أموال ضخمة في مشاريع مفلسة ووهمية.
ومن خلال الرجوع إلى تكرار ما مضى، يمكن القول أن صفحة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان لا زالت مفتوحة، وأن الذي استفاد من هيأة الإنصاف والمصالحة، هو المخزن وخدام الدولة، وكل من نهبوا ممتلكاتها من عقار وأراض وتحويل الأموال العمومية، ومن تكتموا على جرائم الاعتقالات والاختطافات والاغتيالات. أما على المستوى المدني والسياسي، فيجب أن نعترف مع أنفسنا ومع غيرنا، بأن المقاربة الحقوقية لم تكن مجدية كما كنا نعتقد، رغم ما بذلته القوى الحقوقية والضحايا وعائلاتهم من مجهود ومن تنازلات كبيرة، لصالح الجلادين وقضاة المحاكمات الصورية ولصناع المحاضر المزورة، ولكل من كان يعطي الأوامر من قريب أو بعيد، ليزج بالمناضلين في السجون والأقبية والدهاليز والمخافر السرية في الرباط وفاس والدار البيضاء وقلعة مكونة وغيرها..
هكذا، وانطلاقا من طموحات الحركات الاحتجاجية، على ضوء حراك الريف وباقي مناطق المغرب، يلاحظ استمرار أجهزة السلطة في ممارسة القمع البوليسي خارج القانون، وإضفاء الشرعية على الانتهاكات باسم البلاغات الحكومية، واللجان المخزنية، وبيانات القوى الرجعية، التي أظهرت عداءها للإنصاف والمصالحة، ولقائدها المرحوم بن زكري وورثته في النضال المدني والسياسي.
الريف وجبالة، وعموم مناطق الشمال، أبينا أم كرهنا، صفحة من صفحات تاريخ المغرب الملتهب والمحرق، وملتقى عذاب جهنمي، يسائل تقرير الإنصاف والمصالحة الذي لم يتحدث في فصوله عن إنتفاضة الريف " 1958-1959" إلا بالمرموز، ولم يتحدث عن صفحات الانتهاكات بهذه المناطق الملتهبة في تاريخنا السياسي.
إن ما يقع اليوم في هذه المناطق، يدعونا من جديد لاستحضار روح المرحوم بن زكري، لنتابع ما دشنه قيد حياته، ولنطالب الدولة بعدم التملص والتهرب من تطبيق كل توصيات الهيئة وجعلها ورشا مفتوحا، لجمع ما تبقى من المعطيات والشهادات، وتشجيع البحث العلمي على الأبحاث والدراسات، وخلق هيأة مستقلة، لمتابعة الشق السياسي من الإنصاف والمصالحة، وإقرار مبدأ المحاسبة والمساءلة والعقاب، في حق كل من ثبت في حقه ممارسة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان بالريف وجبالة وباقي المناطق.
إن مغرب اليوم، هو مغرب انطلاق حركة تحرر جديدة، بجيل جديد من المطالب، ومن المناضلات والمناضلين الشباب. والتاريخ المغربي، يشهد على بطولات بدأت باستغلال الفضاءات العمومية نضاليا، وانتهت إلى إحداث رجات ثورية، أرغمت الدولة على القيام بإصلاحات، كانت أحيانا جريئة وجذرية.
إن تطور الأحداث، واحتدام الصراع بين الجماهير الشعبية ومؤسسات الدولة، وانفجار العديد من التناقضات داخل دواليب المخزن وخارجه، يفرض اعتراف الأحزاب السياسية، والمنظمات النقابية، والتنظيمات المدنية الكبرى، بفشلها وبمسؤوليتها فيما حصل. كما يطالبها بالعمل على انبعاث روح استقلاليتها عن المخزن ودوائره، الصغيرة والكبير منها، وتقديم استقالتها، وتسليم مفاتح تنظيماتها للجيل الجديد من المناضلات والمناضلين، ومرافقة طموحاتهم وأحلامهم ومطالبهم العدالة، من أجل إقرار المساواة والحرية والعدالة الاجتماعية، وتحقيق الكرامة للشعب المغربي.
كما على ورثة المرحوم إدريس بن زكري، أن يعترفوا بفشل المقاربة الحقوقية. فبقدر ما يعتزون بإيجابياتها وبانتصار بعض جوانبها، بقدر ما عليهم اليوم أن يرفعوا السقف للمطالبة بحكومة إتلاف وطني، في أفق تعديل دستوري، يقر بإصلاح سياسي جذري وعميق.