ذ. مولاي نصر الله البوعيشي
يعد لحسن باعليوي الذي انطلق من الطفولة ليسمو الى أعلى قمم الفن التشكيلي بتميز قل نظيره ، أيقونة الفن التشكيلي العصامي الدمناتي بامتياز ، فهو مبدع اجتمعت فيه من مميزات الفنان الشامل ما تفرق في العديد من الفنانين ، انطلق مساره الإبداعي والفني من سن مبكرة ليمارس هذا الفن بصور وأشكال وألوان تحمل بصمات تجربة طويلة متنوعة وغنية.فقد كنا ونحن يافعين نستمتع بما تخطه أنامله على الجدران بالفحم او الطباشير او باقلام الرصاص او الاقلام الجافة على صفحات الدفاتر من شخصيات واقعية واخرى من وحي خياله في أولى خطواته الإبداعية قبل أن ينتقل الى الرسم والتشكيل والنحت و النقش والمنمنمات على الخزف التي أبدع فيها كذلك واستخدم فيها خياله وفكره الخلاق .
الفنان المبدع لحسن باعليوي يعشق الرسم ويعيشه كحياة وليس مهنة ولا طلبا للمجد فهو يرسم من اجل الفن الذي يعتبره رسالة نبيلة تحمل الكثير من القيم الفنية والإبداعية والإنسانية، و معروف عنه تحاشي الشهرة و العمل بصمت بعيدا عن الأضواء . يقضي وقته فراغه في مرسمه الذي شكل على الدوام قبلة للزوار ومعلمة فنية يسافر من خلالها الزائر الى عوالم تحف ناذرة وأشكال فنية تعكس العمق الفني للتشكيلي وتختزل مساره الحافل وتلامس طريقة تفكير هذا المبدع الرائد البسيط في ملبسه وهيئته الذي لم يتاجر بعبقريته ، الذي كرس حياته للتأمل ونثر عبق شعر ريشته الإنسانية و في توظيف عالم الألوان ومحاورة الحجر والجبس والطين ليبدع منها إيحاءات شاعرية ذات مغزى بليغ وغزير ومثير للإعجاب . لم يسع الى الشهرة فهي التي سعت اليه أذ تحت ضغط الأصدقاء من الفنانين التشكيلييين وغيرهم ونظرا لما لاعماله من قيمة فنية فانه شارك في عدة معارض محلية على مستوى مدينة بني ملال حيث أجبرته ظروف العمل على الاستقرار منذ السبعينيات ، كما عرضت أعماله في اكبر وأشهر الأروقة الفنية الوطنية و نالت إعجاب المهتمين والفنانين التشكيليين والزوار وأحرزت عدة جوائز.
تختزل الإبداعات الفنية للفنان لحسن باعليوي طريقة تفكيره وتعكس شخصيته وأحاسيسه ومرجعياته الفكرية والعقائدية ، فضلا عن مكونات ثقافته الذاتية . وتجمع اعماله بين الكلاسيكية و الحداثة في نسق خاص ، فالاصالة لا تعني عنده التشبع بالتراث واجتراره و المعاصرة لا تعني عند لحسن باعليوي ذلك التقليد الاعمي الى حد "انسخ والصق couper-coller كما يفعل بعض الفنانين بل تعني متابعة التقدم والتطور والتجديد والإبداع .ولهذا فان قوة الفنان لحسن باعليوي الدمناتي الولادة والمنشأ تكمن في أنه لم يحاصر نفسه في زاوية إبداعية محددة أو مدرسة تشكيلية بعينها ،بل إنه ينتقل بحرية وطلاقة كالنحلة من زهرة فنية إلى أخرى بنفس التألق والتميز ،مما يصعب معه تحديد انتمائه لمدرسة فنية معينة أو نمط خاص من الفنون الجميلة فهو ينتقل من السريالية الى الواقعية او الرمزية وتارة يمزج بين الفطرية والانطباعية . بعض لوحاته توحي وكأنك أمام رسام من عصر النهضة وأخرى تحيلك مباشرة على آخر تقليعات الفن التشكيلي لبيكاسو وسلفادور دالي رواد الفن التشكيلي الحديث، مما يجعلك تشك في كونك أمام فنان عصامي يمارس التشكيل بالفطرة ولم يسبق له ان ولج أي معهد متخصص ، ولكن عندما تجالسه وتناقشه تنجلي كل شكوكك فالفنان لحسن باعليوي الدمناتي واسع الاطلاع على مختلف المدارس والاتجاهات الفنية القديمة والحديثة ومتتبع لمستجدات الساحة .
الفنان لحسن باعليوي يستلهم مواضيعه مما راكمه منذ الطفولة من البيئة الدمناتية او المراكشية التي ترعرع فيها ومما تشبع به من الثقافة المغربية المتعددة بروافدها الكثيرة العربية والامازيغية والإنسانية بشكل عام، لذلك فان اعماله تكتنز مقومات فنية وتراثية وحضارية وجمالية متعددة ومتنوعة .وما يميز اعماله الابداعية السخاء في العطاء والنبل والاناقة والرقة والتنوع فلوحاته تتنوع بين "الواقعية" المجردة من الاحاسيس والافكار الخيالية فهي تصوير للحياة اليومية كما هي وتسليط للأضواء على جوانب مهمة من هذا الحياة يريد الفنان لحسن باعليوي إيصالها للجمهور بأسلوب يسجل الواقع بدقائقه دون غرابة أو نفور و دون زيادات أو نقصان ، ويظهر ذلك جليا على سبيل المثال لا الحصر في لوحة " أمحضار" وفي البورتريهات المختلفة كالمرأة الامازيغية بوجهها المشرق وازيائها التقليدية ذات الالوان المبهجة و كلوحة باب اعرابن التاريخي بدمنات ، وبين اعمال غارقة في التعبيرية والسريالية حيث يتخلص الفنان لحسن باعليوي من مبادئ الرسم التقليدية ويغوص بنا في عالم لا واقعي بتركيبات متناقضة ومعقدة لأجسام غير مرتبطة ببعضها البعض ، تصدمنا كمشاهدين بمواضيعها وتشكيلاتها وغرابتها وغموضها و تدعو الواقف امامها للتأمل والتفكير والبحث عن مضمونها الفلسفي وعن الرسالة المشفرة التي توجد خلف الحقيقة البصرية الظاهرة فيها .
إن المتأمل للوحات التي اطلعت عليها والتي والتي ترافق بعض نماذجها هذا المقال ، يجد نفسه مضطرا إلى فهم دلالات الألوان التي اعتمد عليها لحسن باعليوي في إبداع هذه اللوحات .فكما تعلمون فإن للألوان تأثيراً كبيراً على نفس الإنسان فهي تحدث فيه أحاسيس مختلفة بعضها يريح النفس والبعض الآخر يضطرب منها الإنسان، ومنها من تعطي شعوراً بالفرح، ومنها من تحس معها بالحزن أو الكآبة . والملاحظ أنه بالاضافة الى الغموض والمحتوى الفلسفي لهذه الاعمال فانها مبهرة برتكيباتها اللونية غير المعهودة هذه التركيبات التي استبعد من نسيجها الفنان لحسن باعليوي الالوان الحارة الصادمة والحزينة كاللون الاسود . وكان باعليوي يقول لنا :" تكفيكم تلك المسحة السوداوية التي تطبع الحياة اليومية من حولكم من فقر وظلم وفساد !."
لحسن باعليوي اشتغل الالوان المحببة للنفس و التي توحي بالدفء وتعطي شعورا جميلا واحساسا بالهدوء .فهل لعامل التقدم في السن تأثير كبير على اختياره لهذه الألوان الرزينة ؟
أحيانا بسبب قلة معرفتنا او لنقل بسبب أميتنا التشكيلية ، نسأل صديقنا لحسن باعلوي عن مضمون هذا اللوحة أو تلك . فيجيبنا دائما بسؤال آخر : وما هو مضمونها في رأيك أنت ؟ ويتبين لنا من خلال جوابه أن قراءة اللوحات تعكس مِنَّا بقدر ما تعكس من الرسام. نحن بدورنا نقرأ أنفسنا عندما نقرأ لوحة ، فلكل واحد منا نظرته الخاصة للوحة حسب حمولته الثقافية، وكما يقول دائما لحسن باعليوي فإن الإبداع مفتوح على أكثر من قراءة و انه لا يوجد تأويل صحيح وتأويل خاطيء في قراءة لوحة ، قراءتك لعمل ما وإن اختلفت عن قراءتي هذا لا يعني قصور عندي أو عندك. هي فقط تجاربنا الإنسانيّة المختلفة نتناول بها اللوحات من مناظير مختلفة.
إن الاساسي والمهم في أعمال الفنان لحسن باعليوي هو عمق رسالتها فهي موجهة للمتلقي العادي البسيط الذي تستهويه الالوان والمناظر الطبيعية الخلابة كما يجد فيها الباحث عن التراث بمختلف تجلياته ضالته وهي موجهة ايضا للمفكر الذي يحب قراءة اللوحات والتمعن في مفرداتها ورسائلها . وهذه الفسيفساء الفنية نابعة في اعتقادي من تكوين شخصية الفنان لحسن باعليوي فمذ عرفته شخصيا هو انسان اجتماعي بطبعه يجالس الناس من مختلف طبقات الشعب لذلك فان أعماله موجهة لثلاثة اشخاص في آن واحد، يخاطب ذاته في المقام الاول ثم يخاطب الآخرين من حوله وفي بيئته بثقافته وبين أهله : بسطاء ، مثقفين ،مهتمين ومختصين ،ويخاطب في النهاية الانسان حيث ماكان فاعماله الفنية ليست طبقية تشعر بجمالها وتدرك مغزاها طبقة واحدة من طبقات المجتمع بل يشارك في فهمها والاحساس بها جميع الافراد وجميع الطبقات وسائر أبناء الانسانية.
ومن هذا المنطلق يمكنني القول بدون مبالغة بأن للفنان لحسن باعليوي مدرسة تشكيلية قائمة الذات لها ملامحها وأسسها الفنية والجمالية والفلسفية، مدرسة خاصة تقوم بالأساس على محاولة ابراز دواخل الإنسان بأسلوبه الخاص ، فالمنحوتات الطينية والجبسية الكثيرة التي دأب على إبداعها والتي اطلعت على الكثير منها منذ الثمانينيات تحيا بداخلها شخوص وكائنات ميثولوجية ووجوه بعيون جاحظة شخوص بحت حناجرها بالصراخ ، صراخ ينبعث من الأعماق : لا للقمع، لا للفساد، لا لاقتصاد الريع، لا للاستبداد، صراخ للمطالبة بالكرامة، والمساواة في الفرص، واحترام حقوق الإنسان، والعدالة الاجتماعية. كما يسعى " الصراخ " الى تجسيد صراعات الإنسان مع اخيه الانسان ، صراخ الانسانية من أجل البيئة صراخ من أجل السلام وسط عصر مليء بالكراهية والعنف والدم . صراخ شخوص منحواتات لحسن باعليوي تجسيد كذلك للفزع والخوف: الفزع من المحيط والخوف من المستقبل المظلم .وهي تذكرني بلوحة "الصرخة " الشهيرة التي رسمها الفنان الدنماركي إدفارت مونك Edvard Munchعام 1893م . وهي ثاني أشهر لوحة فنية بعد الموناليزا.
وعلى ذكر موناليزا ليوناردو دا فينشي التي قيل عنها وكتب عنها الكثير مما لا يتسع المجال للخوض فيه ، فهي لوحة فنية صنفت من قبل النقاد والفنانين كأفضل اللوحات الفنية التي مرت عبر تاريخ الرسم، أولا بسبب التقنيات المبتكرة المستعملة في رسمها من مزج الألون والتدرّج فيها و التبابن بينَ الظلّ والضوء و عدم وضوح الحدود بين الأشياء، وثانيا بسبب الابتسامة الغامضة للشخصية المرسومة فيها، .ونظرا لهذه المميزات يرى النقاد والمهتمون أنه من الصعب تقليدها ، الفنان لحسن باعليوي نجح في هذا التحدي ورسم لوحة الموناليزا بنفس ابتسامتها ونظراتها بدقة متناهية كما أعاد رسمها مرة اخرى ولكن بأسلوبه الفني الخاص الموسوم بالترميز والإيحاء وتمكن بذلك من منح هذه اللوحة المشهورة بعدا جماليا آخر..
عرف عن لحسن باعليوي في بداياته الاولى ولعه برسم الوجوه / البوتريهات وهي هواية تأصلت في أعماقه حيث انتقل من رسوم الوجوه أبطال القصص الكارتونية لافلام الكاوبي/ رعاة البقر وهي الشخصيات التي عشنا مغامراتها من خلال القصص إحدى أروع السلاسل التي سجلت علامة مهمة في عالم القصص المصورة. KIWI ZEMBLA ..... بقبعاتهم المشهورة بل اصبح يتعامل مع الوجه ليس من منظور الملامح الخارجية فقط بل كمادة خام يرصد من خلالها أحاسيس النفس البشرية والانفعالات الحقيقية ، وقد ذاع صيته بسبب اتقانه هذا الفن خصوصا مع عدم توفر تقنية تكبير الصور والفتوغرافية واقتصارها على اللونين الابيض والاسود انذاك وقد دخل لحسن باعليوي الى جل البيوت بدمنات من بابها الواسع فلا يكاد يخلو بيت من بورتريه للاب او الجد من توقيع هذا الفنان .
لا بد من أعترف- في النهاية - بأنني لم استطع التعريج على كل المقومات الدلالية للاعمال الفنية للفنان لحسن باعليوي وما قدمته لا يعدو ان يكون مجرد انطباعات ورؤى شخصية حول أعمال هذه الفنان أردت ان اتقاسمها معكم ليس لانه فقط فنان دمناتي و صديق اعتز بصداقته تعلمت منه معنى الرسم وعرفت منه شخصيا أهمية الفن التشكيلي الذي لم اأكن أعيره أي اهتمام قبل أن ازداد معرفة بهذا الفن مع صديقي العزيز الفنان و الناقد الحيسن ابراهيم ، بل لقيمة أعماله التشكيلية الهادفة والهادئة البعيدة عن الضجيج والبلبلة التي يعرفها هذا الميدان الذي اختلط فيها الحابل بالنابل والغث بالسمين والرخيص بالثمين ، حتى أصبح كل من يخربش خربشة "فنانا تشكيليا" .
إن ابداعات لحسن باعليوي تحتاج إلى دراسة رصينة من طرف نقاد مختصين لسبر اغوارها الابداعية التي امتدت لعدة عقود والتي تجمع بين الفطرة والموهبة المؤسسة على معرفة فنية تنحو نحو التعبير عن الذات وعن مكامن النفس برؤية عميقة تطرح أسئلة عديدة متصلة بالواقع كما يراه الفنان لحسن باعليوي ويعشيه .
وإذا كان الفنان لحسن باعليوي فنانا يكره الشهرة ولا يلهث وراءها ،فإن إبداعه الفني ويستحق أكثر من دراسة والتفاتة ،اعترافا بجميل صنيعه ومساهمته الكبيرة في الإشعاع الثقافي الخلاق..
هذه بعض اعمال الفنان لحسن باعليوي