رحلتي إلى القطار الإسباني في القاهرة
بقلم ذ.: سعيد الغماز
خلال زيارتي لمصر، ركبتُ ميترو الأنفاق في العاصمة القاهرة وليتني لم أركبه لكيلا أقف على مشاهد قد لا تخطر على بال سائح يتوق لزيارة ما تبقى من حضارة الفراعنة وأهرامها… بتوصية من مُستخدم في الفندق الذي أقيم فيه، استعملتُ الميترو لقضاء غرض يخص حجز مقاعد في القطار الذي يُسميه المصريون القطار الإسباني، وهو قطار يسير ليلا ليربط بين القاهرة ومدينة الأقصر. ويستعمل هذا القطار السياح الذين يريدون القيام برحلة عبر النيل انطلاقا من الأقصر لزيارة المآثر التي خلَّفها عصر الفراعنة، فمدينة الأقصر هي عاصمة الحضارة الفرعونية.
عند رجوعي وصل الميترو إلى المحطة التي يجب أن أنزل فيها.. وقفتُ أمام باب النزول أنتظر توقف المركبة لأذهب إلى حال سبيلي بعد أن قمتُ بالمهمة بنجاح، فقد حجزت ثلاثة مقاعد في القطار الإسباني لكل من زوجتي وابنتي وأنا، وقد انتابني إحساس مفعم بالحماس.. حماس رحلة قد تكون من الرحلات التي تمزج بين السفر في التاريخ القديم ومتعة السياحة. فمن المقرر أن نأخذ القطار الإسباني.. ننام فيه بعد وجبة العشاء لنصل إلى مهد الحضارة الفرعونية مدينة الأقصر بعد تناول وجبة الفطور في القطار. والأقصر هي المدينة التي يوجد فيها أحد أكبر المتاحف المعروف بمتحف الأقصر وأكبر المعابد الفرعونية ووادي الملوك والكرنك… فتَح الميترو الباب وكانت المفاجأة… جموع كبيرة من الراكبين يريدون دخول الميترو في ازدحام شديد وفوضى ما بعدها فوضى، الكل يبحث عن الركوب أولا وبأي طريقة دون مراعاة لمريض أو ضعيف أو امرأة حتى لو كانت حاملا أو طفل أو رضيع. كانت مفاجأتي كبيرة واستغرابي أكبر.. أمام هذه الفوضى العارمة تراجعتُ إلى الوراء وحمَدتُ الله أني أخذتُ الميترو لوحدي دون أن أصطحب معي زوجتي وابنتي… وأنا أنظر لتلك الفوضى في صعود الميترو تراءت أمام أعيني صورة الجار الذي أوصى عليه رسول الله عليه الصلاة والسلام، وتذكرتُ الحديث الشريف “ما زالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بالجارِ، حتَّى ظَنَنْتُ أنَّه سَيُوَرِّثُهُ”، ثم انتصَبَتْ أمام عيناي شاشة تَعرضُ لحوار بيني وبين أحد الظرفاء حول الآية 36 من سورة النساء (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ)، وكان الحوار حول معنى “والجَارِ الجُنُبِ والصَّاحِبِ بِالجَنْبِ”. وأفادني مُحاوري بأن المقصود بالجار الجُنُبِ هو الجار الذي لا قرابة بينك وبينه ويسكن بالقرب منك وله عليك حقوق منها عدم إيذائه، أما الصاحب بالجَنْبِ فالمُراد به الصاحب في السفر. فقلتُ مع نفسي ليس الجار هو من يسكن بجانبك فحسب، وإنما الجار هو أيضا من يقف بجانبك وأنت تنتظر الميترو، وينطبق عليه ما أوصى به رسول الإسلام من معاملة للجار تبدأ بالإحسان إليه وعدم التعرض له بالأذى والسوء، وتنتهي بتحمل أذاه ومساوئه. ومَنطق هذه المعاملة يقضي أن يكون التنظيم في محطة ميترو الأنفاق في القاهرة أفضل من نظيره في الدول الغربية، فالمعروف عن الشعب المصري تديُّنه حتى أن لهجته المحلية لا تخلو من كثرة الصلاة على النبي ومن مصطلحات دينية من قبيل “ذي إرادة ربنا” و”نعم بالله”. في الدول الغربية تشهد محطات الميترو تنظيما يحترمه الجميع بحيث يقف كل مرتفق وراء الآخر ولا يشرعون في الصعود إلا بعد نزول الراكبين. أما في كوريا الجنوبية، فنجد صورة أكثر تنظيما مما شاهدْتُه في الدول الأوروبية بحيث في جميع محطات البلاد، يصطف المرتفقون على يمين ويسار باب الدخول محترمين الصف ولا يؤذون بعضهم البعض، ويتركون الوسط للنازلين من المركبة. إنه عقد اجتماعي اتفق عليه المجتمع وأصبح شِرعة يسير عليها الناس. إذا كان هذا هو حال الدول الأخرى، فإن صورة الجار الذي كاد يُوَرِّثُهُ رسولنا عليه أزكى الصلاة والتسليم، تقتضي أن نكون أكثر تنظيما في محطات الميترو وأن يسود الإيثار بيننا بأن نجعل الطفل والمرأة والمريض والشيخ لهم الأسبقية في الركوب، وتكون صورة التنظيم في هذه المحطات أكثر حضارية من أوروبا وحتى كوريا الجنوبية.
تراءت أمام عيناي صورة الجار الذي كاد رسول الله أن يُوَرِّثه، فرجعتُ إلى الوراء أتمعن في صورة الفوضى والازدحام الذي امتزجت فيه المرأة والطفل والرجل والقوي والضعيف في منظر فريد لا يعكس نظرة الإسلام وإنما يعكس واقع التخلف البعيد عن الدين.
وأنا أنظر لهذا المشهد الغريب ولا أجد سبيلا للنزول، بدأتُ أفكر في مواصلة السير حتى المحطة القادمة لعلي أجد واقعا مغايرا يساعدني على الخروج من الميترو بسلام ووئام دون أن أرتكب جريمة في حق الجار، وما أنا إلا سائح لا أخبر دروب مدينة من حجم القاهرة… فجأة لمحتُ بجانبي رجلا قوي البنية من منظره يبدو أنه سلفي (لحية طويلة وجلباب قصير) وبجانبه زوجته حسب ظني ترتدي النقاب. وضع الرجل السلفي زوجته أمامه، وكان قوي البنية، فراح يتدافع مع الزحام في الاتجاه المعاكس ليجد للمرأة ولنفسه ممرا للهبوط من الميترو مع ما يتطلبه هذا الممر من التصاق مع الرجال والفتيات والأطفال والشيوخ. فقلتُ مع نفسي ما دام هذا الرجل الذي يبدو من منظره الاحترام والوقار، قام بما قام به رفقة زوجته بنقابها، فإن الأمر عادي في هذه المدينة التي عشقتُها ليس لحاضرها وإنما للحضارة القابعة في أحشائها. فالتصقتُ بالرجل السلفي، وخُضتُ غمار البحث عن ممر مستحيل وسط جدار سميك من الأجسام التي تريد صعود الميترو بتلك الطريقة. كانت بنية الرجل القوية عاملا ساعدني على الهبوط حيث التصقتُ به ولم أبرح مكاني خلفه، لأنني إن لم أقم بذلك، ستحملني الجموع الصاعدة للعربة إلى الداخل وأنا أريد الخروج. لم يكن أمامي سوى خيار واحد هو الالتصاق بالبنية القوية لصاحبي وإلا سأجد نفسي داخل المركبة منقوص الأطراف. جريمة في التعامل وفي حق الاحترام الواجب للجار فُرض عليَّ ارتكابها لا لشيء سوى من أجل النزول من الميترو لألتحق بعائلتي الصغيرة في الفندق.
الفندق الذي أقيم فيه يطل على ميدان التحرير، ولبلوغه لم أجد سبيلا لقطع الطريق أمام سيل جارف من السيارات التي تتزاحم بينها بحثا عن أي ممر مهما كان صغيرا لتجاوز السيارات الأخرى. بقيتُ أراقب كيف يفعل أهل البلد لقطع الطريق. فما كان لي من سبيل سوى الالتصاق من جديد بأحد المارة وتتبع طريقته وخطواته في قطع الطريق. سلكتُ طريقه كما كان يفعل.. يقطع الطريق على سيارة وينتظر مرور أخرى ويقف في منتصف الطريق وسط السيارات التي زيَّنت المكان برنين صفاراتها.. حتى وجدتُ نفسي في الجهة الأخرى… دخلتُ الفندق وألقيتُ بجسدي فوق “طرابيزة” في قاعة الاستقبال، وأول ما نطقت به هو الحمد والشكر لله أن رجعتُ للفندق ولأسرتي كامل الأعضاء كما خرجت. ثم بدأتُ أُحدِّث نفسي كيف يحدث هذا في بلاد المسلمين. ألسنا أمة الإيثار بامتياز؟ ألسنا قوم “لا يُؤمِنُ أحدُكم حتى يُحِبَّ لأخيه ما يُحِبُّ لنَفْسِه” كما جاء في الحديث الشريف؟ كل هذا الإرث الديني من شأنه أن يجعلنا أمة مثالية في التنظيم وفي احترام الآخر وفي المعاملة الجيدة للجار. أُحدِّث نفسي وأتساءل: هل تركنا هذا الموروث الحضاري والحداثي في عالم مُثٌلِ أفلاطون وصنعنا واقعا آخر بلا مُثُل ولا قِيَّم نعيش فيه؟
بقيتُ فوق “الطرابيزة” ألتقط أنفاسي بعد حادث ميترو القاهرة وحادث قطع الطريق في ميدان التحرير وأنا أُحدِّث نفسي بطرح الكثير من الأسئلة إلى أن خلصتُ لسؤال لم أجد له جوابا: أين الخلل؟