اللغة والهوية بين الودغيري وكاتب ياسين
بقلم د: محمد بودهان
الدكتور عبد العلي الودغيري كاتب وباحث وأكاديمي مغربي معروف بدفاعه الشرس عن اللغة العربية، ومعارضته القوية لهيمنة الفرنسية بالمغرب. وهو صاحب العديد من المؤلفات ذات الصلة بموضوع اللغة العربية والدفاع عنها. في إطار هذا الدفاع عن العربية ومناهضة الفرنكوفونية، ينتقد الدكتور الودغيري بشدّة القولة المشهورة للكاتب الجزائري الفرنكوفوني كاتب ياسين، والتي يقول فيها بأن الفرنسية التي يكتب بها هي “غنيمة حرب”. وقد نشر هذا الردّ على ياسين في شهر يوليوز 2022، بموقع مركز ابن غازي للأبحاث والدراسات الاستراتيجية (انقر هنا)، في مقال من جزئين (1، 2) تحت عنوان: “مَن كان الغنيمةَ حقا يا كاتب ياسين؟”
ما يصدق على الفرنسية قد يصدق بالأولى على العربية:
يحاول الأستاذ الودغيري أن يُقنعنا، في نقده لموقف كاتب ياسين من اللغة الفرنسية، أن هذا الأخير، كما يدلّ على ذلك عنوان المقالة، ليس هو من غنم اللغة الفرنسية، كما عبّر عن ذلك عندما قال عنها بأنها “غنيمة حرب”، بل هي التي غنمته عندما أصبح كاتبا بها وخادما لها، مجنّدا لديها لمحاربة العربية والإسلام، كما كانت تريد وتفعل فرنسا الاستعمارية نفسها في الجزائر. ولهذا فإن كاتب ياسين وأمثاله هم، كما يقول السيد الودغيري، «سَدَنة المعبد الفرنكفونيّ الأُرثودُوكسيّ وشَمامِسَته الذين تشابَكت مصالحُهم بمصالحه، وارتبط وجودُهم ومصيرُهم بوجوده»، يعيشون «كامل حياتَهم مجنَّدين في خدمته وتقديم القرابين لأعتابه». لقد ظل ياسين، بسبب اللغة الفرنسية، كما يشرح الأستاذ الودغيري، حاملا لـ«ثقافةُ إشهار السيف على العربية الفصحى المشتركة التي حاربتها فرنسا بكل ما تملك، […] ولاسيما بعد اكتشافها للآلة التدميرية الناعمة المعروفة بـʺالفرنكفونيةʺ، وهو اسم الشهرة الذي اكتسبته السياسة اللغوية والتعليمية الفرنسية فيما بعد»؛ «فقضى ثلثَ عُمره الأخير مرابطًا في جبهة الحرب على العربية والوجود العربي الإسلامي، وإحياء روح العنصرية وتمزيق اللُّحمة التي طالما عملت القيمُ الإسلامية على تقويتها بين العرب والأمازيغ في المنطقة المغاربية». وهو ما يخلص منه الأستاذ الودغيري إلى هذا السؤال الاستنكاري، الذي يوجهه إلى ياسن: «من كان، إذن، يصحّ أن يُعدَّ غنيمةَ حربٍ، يا كاتب ياسين، أنتَ أم اللغة الأجنبية التي قلتَ إنك منفيُّ بداخلها؟ وهل استطعتَ تحريرَ وعيِك وعقلك وفكرك وثقافتك مِن هذا المنفى السحيق؟».
إذا كان صحيحا ـ وهو ليس كذلك ـ أن اللغة الفرنسية جعلت، كما كتب الأستاذ الودغيري، من ياسين خادما لهذه اللغة، مواليا لها ومدافعا عنها، فسيكون تصرّفه لا يختلف عما يفعله السيد الودغيري نفسه عندما جعلت منه اللغة العربية خادما لها، ومدافعا شرسا عنها، ولهانا بها وعاشقا لها… وإذا كان صحيحا أن كاتب ياسين وأمثاله هم «سَدَنة المعبد الفرنكفونيّ الأُرثودُوكسيّ وشَمامِسَته»، يعيشون «كامل حياتَهم مجنَّدين في خدمته وتقديم القرابين لأعتابه»، فسيكون صحيحا، وبنفس المنطق ونفس الممارسة، أن السيد الودغيري وأمثاله هم «سَدَنة للمعبد التعريبي الأُرثودُوكسيّ وشَمامِسَته»، يعيشون «كامل حياتَهم مجنَّدين في خدمته وتقديم القرابين لأعتابه». والدليل على ذلك أنه كتب عدة كتب دفاعية يعرض فيها هذه الخدمة والولاء والعشق وتقديم القرابين…، في حين أن ما قدّمه ياسين من خدمات للفرنسية ـ دائما بمنطق الدكتور الودغيري ـ لم يتعدّ كتابات إبداعية من شعر ورواية ومسرح. فلماذا يُحلّ السيد الودغيري لنفسه ما يحرّمه على الآخرين، ويجيز للعربية ما يمنعه عن الفرنسية؟ ألا يعبّر هذا التناقض عن نرجسية عروبية قومية متضخمة، يجعلها تضخّمها تتعالى عن المنطق والواقع، فلا ترى إلا نفسها كمركز للعالم؟
لكن الفرنسية لم تجعل ياسين يدّعي أنه فرنسي:
وإذا كان صحيحا أيضا ـ وهو ليس كذلك ـ أن كاتب ياسين كان يناوئ العربية خدمة منه للفرنسية، فسيكون تصرّفه لا يختلف عما يفعله السيد الودغيري نفسه عندما يناوئ الأمازيغية والدارجة خدمة للعربية حتى لا يكون لها منافس ضمن اللغات الوطنية. لكن ياسين كان يرفض العربية باعتباره جزائريا يدافع عن لغة الشعب الجزائري، التي هي الأمازيغية والدارجة، وليس لأنه “فرنسي” يدافع عن اللغة الفرنسية للشعب الفرنسي الجزائري. أما السيد الودغيري، وغيره من التعريبيين، فهم يدافعون عن العربية كلغة للشعب العربي، المغربي والجزائري، مستعملين اللغة العربية كأداة للتعريب القومي والهوياتي، والتحويل الجنسي للمغاربة والجزائريين من جنسهم الأمازيغي الإفريقي إلى جنس عربي أسيوي. ولذلك فهم، بدفاعهم عن العربية من أجل هذا التعريب القومي والتحويل الجنسي، لا يمارسون فقط تعريب اللسان بل تعريب الإنسان بتحويله جنسيا إلى إنسان من جنس عربي. وهذه جريمة تدينها القوانين والأخلاق والإسلام الذي تكرّر إحدى عشرة مرة في موضوع الأستاذ الودغيري، لكن لكي يخرق في النهاية مبادئه المتعلقة باحترام لغات وهويات الشعوب غير العربية والحفاظ عليها.
فكاتب ياسين لم يكن يستعمل الفرنسية ليحوّل الشعب الجزائري إلى شعب فرنسي، بل استعملها لغاية شرحها بدقة ووضوح عندما قال وهو يعترف أنها لغة استعمارية: «الفرنكوفونية آلة سياسية للاستعمار الجديد، التي تديم استلابنا. ولكن استعمال اللغة الفرنسية لا يعني أننا عملاء لقوة أجنبية. فأنا أكتب بالفرنسية لأقول للفرنسيين بأنني لست فرنسيا». أما أنتم، التعريبيين، فتستعملون العربية لتقولوا للعرب الحقيقيين بأنكم عرب مثلهم، منتظرين منهم مكافأة على تخلّصكم من “بربريتكم” وهويتكم الحقيقية والأصلية. لكن هؤلاء العرب الحقيقيين يردّون عليكم بأنكم مجرد عرب مزوَّرين ومزوِّرين، تنتحلون الصفة وتمارسون الزيف. وهذا هو الفرق بينكم وبين كاتب ياسين: هو يوظّف الفرنسية ليثبت بها هويته الأمازيغية الإفريقية ويدافع عنها تجاه فرنسا التي كانت تسعى إلى ابتلاعها وتذويبها في انتمائها الفرنسي. أما أنتم أيها التعريبيون، وعلى رأسكم الأستاذ الودغيري، فتوظّفون العربية للقضاء على الهوية الأمازيغية الإفريقية للمغاربة والجزائريين، ولإلحاقهم بهوية عربية مزوَّرة ومنتحلة. ولهذا فعندما يقول كاتب ياسين بأن الفرنسية هي بمثابة غنيمة حرب، فهو يقصد أنه بفضل هذه اللغة تكوّن لديه الوعي الهوياتي بانتمائه الأمازيغي الأصلي، وأدرك أنه ليس فرنسيا ولا عربيا. فلولا اللغة الفرنسية، لاستمر يعتبر نفسه “عربيا” كما كان يعتقد لكونه ينتمي إلى أسرة عربوفونية حيث كان معيار التمييز بين “العربي” والأمازيغي هو معيار اللغة، كما هو الحال عندنا بالمغرب. أما اللغة العربية فهي، بخصوص العلاقة بالوعي الهوياتي، وعلى عكس الفرنسية، تزيّف هذا الوعي بجعل صاحبه يعتقد أنه “عربي”، وأن من واجبه محاربة الأمازيغية حتى لا تشوّش على وعيه الهوياتي العربي الزائف.
يقول الأستاذ الودغيري إن كاتب ياسين مات «على شهادة: “أنا لست عربياً ولا مسلماً، أنا جزائري”». وهو ما يرى فيه نتيجة «لانخراط (ياسين) في حرب ضروس ضد العربية الفصحى وثقافتها وأهلها وما يرتبط بها من قيَم دينية وحضارية وتاريخية». فحتى إذا كان ذلك صحيحا، فسيكون سبب هذه “الحرب” هو أن اللغة العربية وثقافتها تُستعملان بشمال إفريقيا للقضاء على الأمازيغية كهوية جماعية لشعوب هذه المنطقة. فهو لم يكن يحاربهما كلغة وكثقافة، وإنما كان يحارب استعمالاتهما لمحاربة الهوية الجماعية الأصلية لبلدان شمال إفريقيا. فموته على شهادة: «أنا لست عربياً ولا مسلماً، أنا جزائري»، هو تعبير عن الوعي الهوياتي السليم، إدراكا منه أن هويته لا تتحدّد بالدين ولا بالعروبة وإنما بالانتماء إلى الأرض الجزائرية التي هي أرض أمازيغية إفريقية. وهذا ما توصّل إليه بفضل اللغة الفرنسية التي وعى بها هويته وتاريخه الحقيقيين، وليس الإيديولوجييْن اللذيْن ينشرهما التعريب وأداته التي هي اللغة العربية، دون أن يعني ذلك أنه كان يدافع عن فرنسة الجزائر كما يفعل السيد الوغيري وبقية التعريبيين الذين يستعملون العربية لتعريب بلدان شمال إفريقيا.
ما هي اللغة التي جعلت المغاربي “مقطوع اللسان”، الفرنسية أم العربية؟
يسأل السيد الودغيري كاتب ياسين مستنكرا: «ما هي اللغة التي كانت تستحق أن تعدّها غنيمة وذُخرًا في حياتك؟ هل هي لغةُ أمَّتك وحضارتك الإسلامية التي نبَتَت فيها جذورُك، وتغذَت عليها عُروقُك[…]، أم اللغة التي حوّلتك إلى أسير أبديّ مقطوعِ اللسان». مرة أخرى، وبسبب الاستلاب التعريبي والعمى الإيديولوجي وطغيان الهوى الأمازيغوفوبي، يقلب الأستاذ الودغيري نتائج العلاقة التي تربط كلا من العربية والفرنسية بواقع استعمالهما والتواصل بهما في الحياة. ففي رأيه، بما أن كاتب ياسين لا يجيد إلا الفرنسية ويجهل العربية الفصيحة، فيكون بذلك “مقطوع اللسان”، الذي تمثله، كما يُفهم ذلك من سؤال الأستاذ الودغيري، اللغة العربية الفصيحة، أي تلك العربية التي لا تُتعلّم إلا في المدرسة أو ما يقوم مقامها.
إذا كان السيد الودغيري يقصد أن من يجيد الفرنسية ويجهل العربية الفصيحة، مثل كاتب ياسين، يبقى “مقطوع اللسان” لأن الفرنسية التي يجيدها لا يستطيع التواصل بها، داخل بلده المغاربي، في الشارع، والمطعم، ومحطة القطار، والمقهى، والسوق…، فهذا غير وارد إطلاقا ولن يحصل أبدا. لماذا؟ لأنه لا يحتاج إلى استعمال الفرنسية في هذه الفضاءات المغاربية، ما دام أنه يستعمل اللغة المتداولة في بلده المغاربي، والتي هي الدارجة ـ أو الأمازيغية ـ التي كان يتحدثها كاتب ياسين كلغة أم فطرية. فالفرنسية التي تعلّمها تشكّل إذن لسانا ثانيا ينضاف إلى لسانه الدارج، الفطري والأصلي، دون أن يترتّب عن ذلك أنها “تقطع” لسانه الدارج هذا. ولهذا اعتبرها “غنيمة”، أي ربحا ومكسبا إضافيا.
لكن الذي لا يجيد إلا العربية الفصيحة التي تعلّمها في المدرسة ويجهل أي لسان آخر، مثل الأمازيغية والدارجة، لا يستطيع أن يتواصل بها في الشارع، والمطعم، ومحطة القطار، والمقهى، والسوق… فيصير بالفعل “مقطوع اللسان”، لأن اللغة التي يعرفها ويتقنها، وهي العربية الفصيحة، لا وجود لها في التخاطب اليومي في الحياة، بعد أن فقدت، منذ قرون، وظيفة التخاطب الشفوي لتصبح لغة تستعمل في الكتابة فقط. فهي بذلك لغة نصف ميتة أو نصف حية، بالنظر إلى أن اللغة تحيا أولا وأصلا بالتداول الشفوي ثم ثانيا بالكتابة والمدرسة. والحال أن العربية لا تحيا إلا بهذه الوسيلة الأخيرة.
النتيجة إذن أن من لا يعرف سوى العربية الفصيحة يكون كـ”مقطوع اللسان” لأنه يكون عاجزا عن استعمالها في التواصل الشفوي بسبب أن العربية لا يستعملها أحد للتخاطب في الحياة. وهذا ما يدعونا إليه الأستاذ الودغيري، أن نكون “مقطوعي اللسان”.
بالإضافة إلى هذه النتيجة التي تؤدّي إليها العربية الفصيحة، عندما تجعل صاحبها “مقطوع اللسان”، كما شرحت، فهي تقطع أيضا، كما في بلدان شمال إفريقيا، اللسان الأمازيغي الأصلي لهؤلاء السكان، باعتمادها لنشر التعريب الإجرامي بهدف إبادة اللغة والهوية الأمازيغيتين وتحويل الأمازيغيين إلى عرب مزوّرين.
التوحيد والتعريب بين الإسلام والاستعمار:
يستحضر الأستاذ الودغيري مجموعة من الآراء العامّية كمرجع ودليل “علمي” ليفسّر به أحكامه الجاهزة، والعامّية كذلك، حول العربية والهوية والاستعمار ولغته الفرنسية… ومن هذه الآراء العاميّة، التي يستند إليها في رده على كاتب ياسين، حكْمُه اليقيني بأن الإسلام قد «أعطى للجزائر وغيرها من الدول والشعوب التي كان لها شرفُ احتضانه، ولم يأخذ منها. أعطاها كلَّ شيءٍ ولم يأخذ منها شيئًا. وحَّدها ولمَّ شتاتَها الداخلي والخارجي مع شقيقاتها المسلمات».
هذا الدور التوحيدي للإسلام ليس حقيقة تاريخية، ثابتة ومؤكدة، وإنما هو مجرّد رأي عامّي شائع لدى مسلمي الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وهو رأي عامّي لأنه يقوم على الخلط بين التوحيد العقائدي للإسلام كدين توحيد مناهض ومناقض للمعتقدات الشِّرْكية، وبين التوحيد السياسي الذي يعزوه هؤلاء المسلمون، ومنهم السيد الودغيري، إلى الإسلام. مع أن الفرق كبير بين التوحيد العقائدي والتوحيد السياسي، ولا يؤدي الأول إلى الثاني ولا يتضمّنه، إذ قد نجد شعوبا غير مسلمة لكنها موحّدة سياسيا، وشعوبا مسلمة لكنها منقسمة ومتنازعة سياسيا. وهذا ما يثبته تاريخ المسلمين كما يشهد على ذلك وجود العشرات من الدول الإسلامية المنفصلة بعضها عن بعض، فضلا عن الحروب والنزاعات بين مجموعات من المسلمين، والتي تميّز تاريخهم منذ وفاة الرسول (صلعم) إلى اليوم رغم أن نفس الدين يجمعهم ويوحّدهم عقائديا.
وإذا أخذنا المغرب كمثال، نلاحظ أن المغاربة كانوا مسلمين منذ ثلاثة عشر قرنا. لكن ذلك لم يمنع الانقسامات السياسية بينهم، دولا وقبائل، ولم يستطع الإسلام توحيدهم ولمّ شملهم الداخلي، كما يدّعي الأستاذ الودغيري. لكن الحقيقة المرة التي قد تصدمه، هو أن أول من وحّد الدولة المغربية والقبائل المغربية ولمّ شملها وأدمجها تحت سلطة واحدة هو الاستعمار الفرنسي وليس الدين الإسلامي. وهذا لا يعني أن الإسلام دين تقسيم وتفرقة سياسية. وإنما يعني أن الإسلام هو محايد سياسيا، لا يفرّق ولا يلمّ. وإنما استعماله السياسي هو الذي قد يجعل منه دينا يوحّد أو يفرّق سياسيا. فمصدر الانقسام والخلاف، مثلا، بين الشيعة والسنة هو التوظيف السياسي لكل منهما للإسلام لخدمة أهادفه ومصالحه السياسية المتعارضة من أهداف ومصالح الطرف الآخر.
يستحضر التعريبيون التحذير من التفرقة والدعوة إلى الوحدة بشكل هوسي كلما تعلّق الأمر بحق الأمازيغية في تأهيلها لتكون لغة تعليم وإدارة وقضاء… فكأن مصدر كل ما يعيشه ما يسمى بالعالم العربي من تشرذم وانقسام ونزاعات هو الأمازيغية. لقد وصف كاتب ياسين، في المقدمة التي وضعها لكتاب تسعديت ياسين: “أيت منكلت يغني”، هؤلاء التعريبيين، الذين يرفضون الأمازيغية بدعوى تهديد الوحدة الوطنية، بمدمري الوحدة. يقول عنهم: «مدمرو الوحدة Les fossoyeurs de l’unité يحذروننا من مخاطر تهديد الوحدة الوطنية. إنها خدعة السارق الذي يدعي أنه سرق للتستر على جرمهLe voleur qui crie au voleur ». ويقول في أحد حواراته الأخيرة مع نفس الكاتبة تسعديت ياسن: «على أي أساس يريدون أن نتحد ونبني هذه الوحدة، على أساس الكذب وتزوير التاريخ؟».
أما أن الإسلام أعطى كل شيء للجزائر ولم يأخذ منها شيئا، فهذا كذلك من الآراء العاميّة الشائعة، والتي لا تثبت أمام البحث والتحليل. فحتى إذا افترضنا أن الإسلام، من حيث تعاليمه ومبادئه، لا يدعو إلى تعريب البلدان التي ينتشر بها و”أخذ” هويتها، إلا أن باسمه، أي بتوظيفه السياسي، سيُبذل مجهود كبير لتعريب بلدان شمال إفريقيا الأمازيغية و”أخذ” هويتها الجماعية، ليس للاستفادة منها بل من أجل القضاء عليها. فقد استُعمل الإسلام للقضاء على الهوية الجماعية لشعوب شمال إفريقيا واستبدالها بهوية عربية، بمبررات إسلامية سياسية كثيرة حسب الفترات والسياقات السياسية: فمرة بدعوى القضاء على الوثنية والجاهلية، ومرة بدعوى أن النبي عربي، ومرة بدعوى أن العربية لغة الجنة، ومرة بدعوى محاربة التفرقة والعنصرية، ومرة بدعوى إفشال مخطط التقسيم الاستعماري… القول إن الإسلام أعطاها كل شيء ولم يأخذ منها شيئا، قد يصحّ بالنسبة لبلدان مثل إيران وتركيا وباكستان وأفغانستان وإندونيسيا…، التي حافظت على هوياتها الجماعية الأصلية ولغاتها القومية بعد انتشار الإسلام بها، ولم يُستعمل “لأخذ” هويتها وتحويها إلى شعوب “عربية”، كما حاولت أنظمة شمال إفريقيا أن تفعل ذلك بتوظيفها للإسلام واستعماله لهذا الغرض.
الاعتراف بغياب أي انتماء عربي قبل الاحتلال الفرنسي:
أصدق ما جاء في مقال الأستاذ الودغيري هو قوله، بخصوص الجزائر، وهو ما يصدق طبعا على المغرب أيضا: «ولم يكن أحد قبل عصر الاحتلال الفرنسي، ينسب شيئًا منه للعرب وحدهم أو للأمازيغ وحدهم، وإنما يُنسَب للبلاد التي توحِّدهم». هذا شيء جميل جدا. فلم يعد الإسلام هو الذي يوحّد الشعوب، وإنما الأرض التي تنتمي إليها هذه الشعوب. لكن الأهم من هذا هو أن هذه الأرض هي مصدر الهوية الجماعية لتلك الشعوب، بغض النظر عن أصولها العرقية، أمازيغية، كانت أو عربية. وإذا عرفنا أن هذه الأرض هي أرض أمازيغية، أي “بلاد البربر”، كما تقول كتب التاريخ العربية، فإن هذه الهوية الجماعية لشعوب هذه البلدان هي أمازيغية.
أما الجانب الأقوى والأكثر دلالة في كلام الأستاذ الودغيري، فهو تأكيده أن لا أحد قبل الاحتلال الفرنسي كان ينسب نفسه إلى العرب أو الأمازيغ، بل فقط إلى الأرض. إذن إذا لم يكن هناك انتماء عربي خالص ولا انتماء أمازيغي خالص للمغرب والجزائر قبل الاحتلال الفرنسي، فكيف تحوّل هذان البلدان، بعد هذا الاحتلال، إلى “مغرب عربي”، وليس مغرب أمازيغي ولا أمازيغي عربي إذا افترضنا وجود هذين العنصرين الاثنين جنبا إلى جنب؟ لا أعتقد أن الأستاذ الودغيري يستطيع، مهما حاول التهرّب باللفّ والتأويل، أن ينفي أن مصطلح “المغرب العربي”، الذي ينسب بصريح العبارة بلدان شمال إلى إفريقيا إلى العرب، لم يظهر إلا بعد احتلال فرنسا للمغرب. وهو ما يؤكّد أن فرنسا هي التي قامت بأكبر وأخطر عملية تعريب للمغرب والجزائر. لماذا هي أكبر وأخطر؟ لأن التعريب، الذي استعمل فيه الإسلام لنشره، كما سبق أن بينا، ظل محدودا ومحصورا فيما هو عرقي، يخص مجموعة من الأفراد الذين كانوا يدّعون أنهم من نسب عربي أو من “نسب شريف”. أما فرنسا فلم تهتم بالتعريب العرقي للأفراد ونشر خرافة “النسب الشريف”، بل ركّزت مجهودها على التعريب السياسي الذي أصبحت بموجبه الدولة المغربية عربية، مع ما ينتج عن ذلك من تعريب للمغرب كله كبلد عربي، وهو ما يعبّر عنه مصطلح “المغرب العربي” الذي بدأ استعماله في أربعينيات القرن الماضي، والذي ابتكره مغاربيون بعد أن كان التعريب السياسي الذي قامت به فرنسا قد أعطى أكله وثماره.
وحتى اللغة العربية لم تحاربها فرنسا، كما يدّعي السيد الودغيري، بل حافظت عليها وجعلت منها لغة تنشر بها القوانين والظهائر والمراسيم في الجريدة الرسمية بجانب الفرنسية، مما أعطاها، ولأول مرة في التاريخ، وضع لغة رسمية بالمفهوم القانوني. لماذا حافظت فرنسا على العربية وجعلت منها لغة رسمية إلى جانب اللغة الفرنسية؟ لأن العربية هي اللغة الوحيدة التي تسمح للفرنسية أن تهيمن وتسود لكونها (العربية) لغة نصف ميتة أو نصف حية تستعمل في الكتابة فقط وليس في التداول اليومي، كما سبقت الإشارة، مما يجعلها غير قادرة على منافسة الفرنسية، عكس الأمازيغية والدارجة، اللتيْن تستطيعان في مدة ربع قرن إزاحة الفرنسية من عرشها بالمغرب إذا توفّرت الإرادة السياسية للنهوض بهما، وذلك بتأهيلهما المدرسي والارتقاء بهما إلى مستوى لغتين للكتابة والتدريس. وقد سبق أن بينا، في مقالات سابقة (انظر موضوع: “الفرنسية كناشرة للعروبة ومناهضة للأمازيغية” بالنقر هنا)، أن هيمنة الفرنسية بالمغرب هي جزء من سياسة التعريب، لأن هيمنة الفرنسية يتوقّف على بقاء العربية كلغة نصف حية لا يمكنها أن تهدّد ولا أن تنافس الفرنسية كلغة حية.
هذه حقائق لا يصدّقها السيد الودغيري ولن يفهمها لأنه ينطلق في تعامله مع مسألة اللغة والهوية مما هو إيديولوجي وعامّي وشائع ومعطى ظاهر وخارجي. في حين أن الحقائق العلمية غالبا ما تكون خفية وراء المعطى الظاهر والحسي.
لماذا يزعج كاتب ياسين المثقفين المغاربيين؟
توفي كاتب ياسين منذ ثلث قرن (في 1989)، وهي مدة تراجعت فيها الإيديولوجية القومية والعروبية بشكل كبير، كما عرفت فيها الأمازيغية تقدّما لافتا إذا أصبحت اللغة الأمازيغية دستورية ورسمية في كل من المغرب والجزائر، وهو ما صاحبه ونتج عنه تراجع في النزعة الأمازيغوفوبية المناهضة للأمازيغية، سواء عند السلطات أو المثقفين العروبيين. لكن رغم كل هذه التحوّلات، السياسية والإيديولوجية، لا زال كاتب ياسين يُرعب ويُرهب الأمازيغوفوبيين، ولا زالوا يحاربونه، كما يفعل الأستاذ الودغيري، بنفس الأسلحة القديمة الصدئة (تمزيق شمل الأمة، خدمة المخطط الاستعماري، إحياء النعرات القبلية والنزعات العرقية…) التي كانت تُستعمل، ما بين سبعينيات وتسعينيات القرن الماضي، في مواجهة الحركة الأمازيغية الناشئة. لماذا “يحظى” كاتب ياسين وحده بهذا الاهتمام الاستثنائي؟
لأن كاتب ياسين لم يأت إلى الأمازيغية من الأمازيغية كمولود معمري، أو علي صدقي أزايكو، أو أحمد عصيد أو محمد الشامي، أو حسن بنعقية… فهؤلاء، إذا كانوا مناضلين في سبيل الأمازيغية، فذلك قد يبدو شيئا طبيعيا لأنهم أصلا أمازيغيون وناطقون بالأمازيغية. أما كاتب ياسين فجاء إلى الأمازيغية من العروبة التي كان يعتقد أنه ينتمي إليها باعتباره “عربيا” يتحدّث اللغة العربية (الدارجة) لأسرته “العربية”. وقد غرست فيه مبكرا هذه البيئة “العربية” التي عاش فيها طفولته، كراهيته واحتقاره لكل ما هو أمازيغي. يقول عن هذه المرحلة من حياته: «ما كنت أعرفه عن القبايليين عندما كنت صغيرا كان كله قدحيا. فالقبايلي هو مثل اليهودي، إنسان غريب لا يشبهنا. كانت هناك عبارات متداولة تحدد شخصيته: Leqbayel, leqbayel/Tous, tous/Lgemla ged Ifellus!» (القبايليون جميعهم ذوو قمل بحجم صغار الدجاج). كان من المنتظر إذن، اعتبارا للمحيط “العربي” الأمازيغوفوبي الذي عاش فيه كاتب ياسين، أن يكون إنسانا “عربيا” ينظر إلى الأمازيغية باستعلاء عرقي عروبي ويحتقرها كلهجة متخلفة خاصة بـ”البربر” “المتخلفين”، الذين لا ينتمي إليهم لأنه من أصل “عربي”. لكن على العكس من ذلك سيصبح واحدا من أشد المدافعين عن الأمازيغية، وأشرس المعادين للنزعة العروبية التي ظل يعتبرها دائما، في كل كتاباته وخطاباته ومواقفه، غزوا واستعمارا واستلابا من النوع الأسوأ والأردأ (انظر موضوع: “متى سيفعل المثقفون المغاربة مثل المثقف الجزائري كاتب ياسين؟”، ضمن كتاب: “في الهوية الأمازيغية للمغرب”، بالنقر هنا أو هنا). وهذا ما يُحرج الأستاذ الودغيري: كيف لـ”عربي” يدافع باستماتة عن الأمازيغية في حين أن من لا زال يحمل اسما أمازيغيا ـ وهو “الودغيري”، نسبة إلى القبيلة الأمازيغية “لوداغير” المشهورة والمعروفة بـ”فيكيك” الأمازيغية المغربية ـ لا يكنّ ودّا للأمازيغيته؟ هذا ما يجعل كاتب ياسين يزعج المثقفين العروبيين أكثر من جميع نشطاء الحركة الأمازيغية. فقد استيقظ لديه الوعي الهوياتي الأمازيغي في مرحلة لم تكن فيها حركة أمازيغية ولا مطالب أمازيغية، وفي عز هيمنة القومية العربية. هذا الوعي الهوياتي الأمازيغي المبكّر والمتقدّم هو ما يفسّر أنه سمى ابنه “أمازيغ” في 1972، “أي في وقت لم تكن الأسماء الأمازيغية متداولة ولا مستعملة ولا حتى محظورة من طرف السلطات لأن لا أحد كان يستعملها. كان كاتب ياسين إذن متقدما عن عصره وسابقا لزمانه فيما يتعلق بالوعي بالهوية الأمازيغية” كهوية جماعية لبلدان شمال إفريقيا. هذا الموقف لا يزعج فقط المثقفين التعريبيين، بل قد يخجلهم عندما يلاحظون أن مثقفا “عربيا” استطاع التخلّص من الوعي الهوياتي الزائف واعتناق الوعي الهوياتي السليم في سبعينيات القرن الماضي، في حين لا زالوا، وفي القرن الواحد والعشرين، يعيشون في كهف الوعي الهوياتي الزائف الذي تشكّل في بداية القرن العشرين.
فأن يكون هناك نشطاء أمازيغيون ناطقون بالأمازيغية، هو، بالنسبة لهؤلاء المثقفين الرافضين للأمازيغية، شيء مقبول وعادي لا يزعجهم ولا يقلقهم، لأن هؤلاء النشطاء هم على الأقل أمازيغيون أصلا، حتى وإن كان “مغرّرا” بهم. أما أن يكون هناك ناشط أمازيغي من أصل “عربي”، فهذا ما لا يحتملونه ولا يطيقونه، لأنه يُثبت لهم أنهم هم كذلك أمازيغيون، لكنهم ضحايا وعي زائف. وهو ما يحرجهم، كما قلت، إلى درجة يشعرون معها بالخجل من أنفسهم. ولهذا فهم لا يتعبون، كما يفعل الأستاذ الودغيري، من محاولة تسخيف مواقف كاتب ياسين حتى يُشعروا أنفسهم أنهم لم يكونوا مخطئين عندما يرفضون الأمازيغية ويدافعون عن عروبة بلدان شمال إفريقيا، وإنما المخطئ هو كاتب ياسين الذي يرفض العروبة ويدافع عن الأمازيغية كهوية للجزائر ولكل بلدان شكال إفريقيا.