يطرح كثيرا خلال الشهور الأخيرة، خاصة في صفوف الإطارات والفاعلين في مجال النهوض بالأمازيغية، سؤال: هل “الملف الأمازيغي” على المستويين السياسي والتدبيري ملف حكومي أو ملكي؟.
بمعنى آخر، في السياق الحالي، باستحضار الوضع السياسي والتنفيذي في المغرب، هل بإمكان ومن صلاحيات الحكومات التنفيذ الفعلي للقانونين التنظيميين لتفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية والمجلس الوطني للغات والثقافة المغربية، وفق الشروط الضرورية وفي الآجال المحددة، أم إن الملف يتجاوزها، وهو من مهام رئاسة الدولة؟.
سنقدم بعض المعطيات الواقعية المرتبطة بالإطار السياسي والممارسة التدبيرية، وليس بالنقاش القانوني والنظري، للوصول إلى إجابة موضوعية عن هذا السؤال:
لا بد في البداية من استحضار الوضع السياسي والمؤسساتي في المغرب في تناول العديد من الملفات في إطار السلطة التنفيذية، بل وحتى التشريعية، وعلى المستوى التدبيري والإداري، إذ يؤكد واقع الممارسة والتنفيذ أن مجال السلطة الحكومية محدود، خاصة عندما يتعلق الأمر بالملفات الكبرى والحساسة أو ذات الأولوية، ولا يتجاوز دورها تنفيذ وتصريف الاختيارات والقرارات الكبرى التي تحدد لها، وبالتالي فهامش مبادراتها في هذا الشأن محدود، وهي غير نافذة ولو تعلق الأمر بتفعيل مقتضيات دستورية وقوانين صادرة؛ والدليل هو أن الملفات التي تحظى بالدعم الكامل وتدرج ضمن أولويات التدبير الحكومي والإداري وتخصص لها العناية والموارد الضرورية وتنفذ بسرعة هي الملفات الملكية، والأمثلة عديدة…آخرها ملف تعميم التعليم الأولي في المدارس الابتدائية الذي أحرز تقدما كبيرا في ظرف سنتين، فيما مازال تدريس الأمازيغية يتخبط في مشاكل البدايات منذ 17 سنة!.
من خلال تحليل تعاطي الدولة مع الملف الأمازيغي، منذ بداية الإقرار به وإدراجه العلني في مجال التدبير السياسي والثقافي الرسمي، أي منذ خطاب أجدير سنة 2002، يتضح أنه يندرج ضمن الملفات الكبرى، نظرا للعديد من الأسباب السياسية بالدرجة الأولى، لأنه مرتبط بقضايا هوية الشعب والدولة والتاريخ الحضاري للبلاد، ويحظى بأهمية وحساسية في مستوى ملف تدبير الشأن الديني وقضية المرأة. ووفق هذا الوضع والأهمية يتأكد أن تدبير ملف الأمازيغية لن يحقق التقدم والنتائج المنتظرة خارج دائرة تدبير وتنفيذ الملفات الكبرى، واتضح ذلك خلال السنوات الأولى، بعد خطاب أجدير، حيث حظي بالأهمية من خلال تنفيذ الإجراءات المرتبطة بالتعليم والإعلام وبعض الإدارات، فيما تم تبخيسه تدبيريا بعد دستور 2011 الذي أقر بالأمازيغية لغة رسمية، وبعد صدور قانون تنظيمي يحدد مراحل تفعيل طابعها الرسمي في مناحي الحياة العامة.
واقع الممارسة التنفيذية، بل وحتى التشريعية، أكد بعد ثلاث ولايات برلمانية وحكومية بعد سن دستور 2011، أن “ملف الأمازيغية أكبر منهم”.. عبد الإله بنكيران، رغم انتمائه الجماعتي والإيديولوجي العدائي ومقاوماته قبل الدسترة للأمازيغية، كان صريحا في التعبير عن ذلك عندما كان في موقع رئاسة الحكومة، خاصة خلال تأخير وإعداد القانون التنظيمي لتفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية، إذ أدرك حدود صلاحياته التي اجتهد في التنازل عنها على كل المستويات.
سعد الدين العثماني أدرك بدوره من موقعه كرئيس حكومة حدود صلاحياته في تناول وتنفيذ المقتضيات القانونية الخاصة بالأمازيغية، ورغم علاقته ومواقفه الديمقراطية في التعاطي مع الأمازيغية والفاعلين في مجالها الثقافي والحقوقي، فقد اكتفى بالصمت والابتسامة المعهودة عندما فهم لماذا لم تنفذ الإدارات مراسلته كرئيس حكومة باعتماد اللغة الأمازيغية إلى جانب العربية، ولم تنفذ القطاعات الوزارية التابعة له مراسلته بإعداد برامج العمل الخاصة بتنفيذ القانون التنظيمي للأمازيغية وفق الآجال المحددة في القانون وفي التاريخ الأقصى الذي حدده هو.
عزيز أخنوش، رئيس الحكومة الحالي، الذي يعتبر على مستوى الخطاب السياسي في سياق ما بعد 2011 الأقرب من مطالب الحركة الأمازيغية، لأنه تبناها في العديد من المناسبات، وأكد ذلك خلال برنامج حزبه الانتخابي، وبعد العملية الذكية والصادقة للفاعلين الأمازيغ بتهنئته بنتائج الانتخابات لتذكيره بالالتزام بتعهدات برنامج حزبه الانتخابي تجاه الأمازيغية، وتقوية حظوظه في الائتلاف الحكومي لاعتمادها رسميا في البرنامج والتصريح الحكومي، وهو ما تم فعلا؛ تأكد من جديد من خلال الممارسة التنفيذية، رغم بعض المحاولات للتقدم في الملف التي لم تتجاوز مستوى إبداء حسن النية والشعور الذاتي، أن الملف أكبر منه، وقد عبر عن ذلك بصيغة أخرى خلال الجامعة الصيفية لشبيبة الحزب مؤخرا بأكادير، حيث اكتفى بالتعبير عن حبه للأمازيغية، وأكد بصيغة ما أنه سيعمل ما بوسعه وأن تنفيذ القانون التنظيمي يتطلب عدة ولايات حكومية، وأن العديد من القطاعات الوزارية والإدارية ليست لديها تصورات عملية حتى لصرف المبلغ المالي الذي أدرج لدعم إدماج الأمازيغية في ميزانية 2022 التي أوشكت على نهايتها!.
النتيجة: الأمازيغية أكبر من الأحزاب ورؤساء الحكومات، رغم محاولاتهم ومبادراتهم المحدودة التي لا يجب تبخسيها، لكن مع ضرورة محاسبتهم عليها، خاصة من خلال استغلالها في الانتخابات؛ ونتمنى ألا تكون أكبر من الدولة التي التزمت بالنهوض بها وتفعيل ترسيمها الدستوري…