التّربية على المقاطعة بين الفطرة ونضال المدافعة.
عبد العزيز غياتي
لجأت قبل أسابيع عدّة إلى مقاطعة إحدى مطاحن القمح بعد أن اتّضح لي بالدّليل القاطع أنّ عمليّة الطّحن لا تقتصر فقط على إحالة القمح إلى دقيق بل تفعل كذلك فعلها في وزن الطّحين حيث ينخفض هذا الأخير بعدّة كيلوغرامات بعد عملية الطّحن، وقبل ذلك قاطعت أحد المحلّات التّجاريّة لأنّه أضاف درهما إلى السّعر الأصلي لقنّينة الغاز بعد أن كان يحتسبها بأربعين درهما بحجّة أنّ هامش الرّبح المسموح به غير كاف، كما تعوّدت أن أقاطع هذا الخضّار أو ذاك التّاجر أو الحرفي لأنّ في تواصله مع الزّبائن عجرفة لا أتحمّلها، أو في حديثه بذاءة لست مجبرا على سماعها، أو في الأسعار التي يبيع بها بضاعته أو يقدّم مقابلها خدماته عشوائيّة لا أجد مبرّرا تستند إليه.
لست الوحيد الذي يمارس هذا الشّكل من المقاطعة الفطريّة التلقائيّة خلال المعيش اليومي العادي، وذلك كوسيلة من وسائل الدّفاع عن النّفس، فلست بدعا من المواطنين، لأنّ ردّ الفعل البديهي هو أن يقاطع كلّ شخص، مَنْ و مَا لا يحلو له، أو يحسّ أنّه غير مرتاح أو خاسر خلال التّعامل معه، وإلّا فالتّعامل مع من تحسّ أنّه لا يرقب فيك قانونا ولا عرفا ولا أخلاقا، أو تعلم أنّه يخدعك ويسرق مالك بعرض سلعة أو خدمة فاسدة، أو بالغش في السعر والجودة، يعتبر استعبادا أو مازوشيّة.
ومن الطّبيعي أن يوجّه الإنسان ابنه وهو يربّيه إلى مسالك المقاطعة في قوله مثلا: "لا تخالط أبناء فلان ولا تشاركهم اللّعب" داعيّا إيّاه إلى مقاطعة بعض الأطفال حين يلحظ أنّهم رفاق سوء لن يجني منهم ولده غير مضيعة الوقت وسوء الخلق والتّخلّف الفكري والدّراسي، وقد يدعوه إلى مقاطعة هذا المسلك أو ذاك قائلا: "وأنت ذاهب إلى المدرسة ،لا تسلك الطّريق الفلاني" لعلمه أنّ به كلابا ضّالة تهدّد حياة المارّة أو به متربّصين من اللّصوص والمتحرّشين.
ومن المنطقي كذلك أن يلجأ المعالج إلى باب المقاطعة ليستعين بها على أداء مهامه العلاجيّة في قوله لمريضه: "توقّف عن تدخين السّجائر فهي خطر على الصّحة عموما وأشدّ خطرا عليك بصفة خاصّة"، حين يتأكّد أنّ علاجه مستحيل مع الاستمرار في التّدخين، داعيا إيّاه إلى مقاطعة بائعي السّجائر سواء تعلّق الأمر بمحلّات مرخّصة من الدّولة خاصّة بذلك، أو محلّات تبيعه بالتّقسيط وبدون رخصة، أو عربات وأشخاص يبيعونه على قارعة الطّريق أو وسط المقاهي، وقد ينصحه بمقاطعة كلّ ما من شأنه التّشجيع على تناول السجّائر من عادات ولقاءات وجلسات في المقاهي، وقد يضيف ناصحا أنّ عليه مقاطعة الأصدقاء والرّفقاء المدخّنين الذين قد يثبّطوا عزيمته و يُضعفوا إرادته التي هي الرّكن الأساس في عمليّة الإقلاع عن التّدخين.
من نافلة القول التذكير أنّ التأثير المتبادل بين الاجتماعي و الاقتصادي في المجتمع لا حدود له، حيث يمكن أن تُحدث رجّةٌ اقتصاديّة بسيطة غليانا اجتماعيّا تُعلم بداية ولا أحد يتنبّأ حول متى وكيف سينتهي، كما أن وعيا اجتماعيا استهلاكيّا بسيطا يمكن أن يطفئ أزمة اقتصاديّة في مهدها، ولن أجازف بالقول إنّ مقاطعة السّلع التي يصبح سعرها أعلى من ما باتت عليه، أو تُضحي جودتها و وفرتها أدنى من ما يجب أن تكون عليه، سواء بسبب ظرف طارئ أو لأسباب مفتعلة دُبّرت بليل واعتيد تدبيرها بمناسبة و بغير مناسبة من أجل الرّبح السّريع، أو من أجل أهداف أخرى، يعتبر حلّا أوّليّا وسريعا، بل قد يكون هذا التّقليد الذي لم يتمكّن بعد من ذهنية المستهلك وفعله هو الدّواء الشّافي لمثل هذه الظّروف، وهو عصا أغلظ من عصا القانون الفاترة التي يمكن رفعها في وجه الاحتكار والمحتكرين، ومن المفيد للدّولة أن تربّي أبناءها على هذا الشّكل من أشكال المقاطعة كمكوّن من مكوّنات التربيّة على المواطنة وتعوّدهم عليه، إلى أن يصبح مثل الشّكل الأوّل، تلقائيّا وهادئا ودون إعداد مسبق ولا تنظيم على الرّغم من ظروفه المتحرّكة، لأنّ عاقبته الحسنة تعود في نهاية المطاف ليس على المواطن وحده، بل على المجتمع كما على الوطن عموما.
فإذا كانت المقاطعة تعبيرا فطريّا تلقائيّا يروم الدّفاع الذاتي عن النّفس يمارسه المواطن باستمرار وبصفة فرديّة، وإذا كان يُفترض من المقاطعة الجماعيّة الغير منظّمة أن تكون ردّ فعل طبيعيّ ومنطقيّ لكبح جماح الاحتكار ومظاهر الإنتاج والتّسويق المنفلتة من معايير الوفرة والجودة واحترام الأسعار، فإنّ الأحزاب والنّقابات مطالبة بالتّفكير في إدخال المقاطعة المنظّمة والهادفة والمرتبطة بمقتضيات إجرائيّة وزمنيّة، ضمن أبجديّات وتقاليد النّضال الاجتماعي والسيّاسي والاقتصادي، لأنّه في مقابل الإضراب الذي هو توقّف جماعيّ متعمّد عن إنتاج خدمة معيّنة، فالمقاطعة هي كذلك توقّف عن استهلاك خدمة أو بضاعة معيّنة، لذلك لا أرى حرجا أن نشهد في المستقبل من يدعو من الأحزاب و النّقابات و بصفة رسميّة المناضلين من المنتسبين والمتعاطفين إلى مقاطعة سلعة أو خدمة معيّنة، ويفاوض من أجل ذلك، بسبب مسّ صاحبها مثلا بحقّ من حقوق المستهلك لم ينفع معه حوار ولم تستطع السّلطات الوصيّة ردّه عن ذلك، ويَشترط وقف المقاطعة بالرّجوع عن ذلك الإجراء الماسّ بحقوق من يفترض أنّها تمثّلهم.