بقلم د : مولاي نصر الله البوعيشي
"من وحي أحياء عيد الهيلولة من طرف يهود من أصول دمناتية "

اقام بدمنات مؤخرا اليهود المتأصلون من دمنات احتفالات بعيد الهيلولة عند ضريح سيدي هارون هاكوهين الموجود على مشارف تغرمين .و يختص يهود المغرب دون غيرهم من يهود العالم بعيدين هما الهيلولة والميمونة .
والهيلولة مناسبة يحتفل بها اليهود عند اضرحة الأولياء وأصحاب الكرامات و أشـهرها بدمنات "هيلولـة الـرابي هارون هاكوهين" الذين كان يزروه كذلك المسلمون الدمناتيون والمعروف عندهم ب" سيدي بولبركات" ، ويندمج في الاحتفال بعيد اليهلولة الأغنياء مع الفقراء، يقيمون الصلاة، ويقرؤون بعض ما جاء في التوراة وكتاب القبالا(1)، يشعلون الشـموع ويغنـون بصـوت مرتفـع لجلـب القـوات الخفيـة حسـب إعتقـادهم حتـى تخلصهم من متاعبهم، ومشاكلهم و أمراضهم، وتتبع الأغاني برقصات صوفية ويطلقون صرخات قوية كلما إزداد حماسهم معتقدين أن روح الولي الصالح ستزورهم في منتصف الليل وتسـتجيب لـدعائهم، كما يسـهر الحاخامـات بقيـة الليـل في قـراءة الزوهـار(2)، والأناشـيد، والصـلاة ، وحتـى بعـد عـودة المحتفلـين لحيـاتهم العاديـة، تبقـى الحركة نشيطة ويستمر الحجاج في تقديم الصدقات و قيام الصلاة إلى غاية حلول عيد الفصح،
وقد عشنا جزءا من طفولتنا مع هذا العيد وما يصاحبه من تبادل الهدايا والاطعمة مع جيراننا اليهود )الاطعمة غير المحرمة عليهم طبعا ( عندما كان ملاح دمنات مركزا يهوديا كبير وعندما كانت مورفولوجيته الاجتماعية تتشكل في غالبيتها من العناصر اليهودية.
لقد استمر التواجد اليهودي بمدينة دمنات إلى عهد قريب ، حيث ما زالت دورهم ودكاكينهم وبيعهم ماثلة للعيان في الملاح ، وما زالت بعض بقاياهم حتى العهد الحالي. ومن أبرزها " المقبرة اليهودية بتغرمين "، والتي خضعت –وما زالت– للعديد من الترميمات من قبل اليهود الإسرائيليين والاروبيين والامريكيين وغيرهم، الذين ينظمون الى دمنات رحلات سنوية ، حيث تحظى الآن بحماية أمنية وحراسة دائمة، كما أحيطت بجدار وعليها حراسة من طرف احد ابناء تغرمين واعيد ترميمها سنة 2021 ، وضريح هارون كوهين الذي اعيد بناؤه من جديد بعد ان تحول الى اطلال اما باقي المعالم التاريخية والاثار خصوصا ببوحلو التي تحكي بعض كتب التاريخ انهم استقروا بها اول مرة لعد قدومهم من "ألمدين" فقد اندثرت ولم تبقى الا بعض معالمهما . وخصوصا قبور الاولياء الصالحين لمعروفين ب "مالين بوحلو " الذين كانت لهم كرامات طبقت شهرتها الآفاق.
كان يهود دمنات حريصين على أداء تعاليم دينهم، في ظل التسامح الذي تمتعوا به ، والذي يتجلى في ممارستهم لمختلف عاداتهم وتقاليدهم وفي الاحتفال بالأعياد والمناسبات الدينية والمراسيم الجنائزية، وهو ما جعلهم يتوفرون على عدد مهم من المزارات والأضرحة، إذ يوجد بدمنات والنواحي عشرات الاضرحة للأولياء اليهود ويؤكد ذلك استمرار توافد اليهود من مختلف اصقاع المعمور الى دمنات لزيارة هذه المزارات والأضرحة إلى اليوم.
ومن بين مجالات التعايش بين المسلمين بدمنات يطالعنا مجال السكن، وهو مجال مهم إذا أخذنا بعين الاعتبار خصوصية هذا المرفق في المجتمعات المسلمة، ولم يكن ليهود دمنات سكن خاص الى حدود تاريخ الصراع التجاري الذي وقع بينهم وبين القائد الجيلالي بن علي اوحدو وتدخل الدول الاجنبية )لحمايتهم (من سطوته وما قصة ماء الساقية المار بحيهم الا القشة التي قصمت ظهر البعير . كان يهود دمنات يسكنون وسط المسلمين قبل الاحداث التاريخية المعروفة التي فرضت تحولهم لحي خاص بهم هذا علما بانهم كانوا يرفضون الانتقال الى حيهم الجديد بل كانوا يقدمون اتاوات لتاخير انتقالهم ، ومع ذلك فإن الملاح الذي بني في عهد السلطان الحسن الاول كان يتميز بانفتاحه الكلي، ولم يكن يختلف عن غيره من الأحياء الأخرى في المدينة ، فهو ليس أكثر ولا أقل تنظيمًا منها، كما أن بيوت اليهودي كانت تبنى مثل بيوت المسلمين ولا ينعزل بعضها عن البعض الآخر إلا لمامًا، وهي عبارة عن حجرات تعيش فيها العديد من الأسر في وئام تام وتنفتح على ساحات مشتركة وتستعمل فيها المراحيض بشكل مشترك.
كانت التجارة أهم نشاط اقتصادي يزاوله يهود دمنات حقق لهم الربح الأساسي نظرا "لاحتكارهم مختلف العمليات التجارية، التي تتم داخل أسواق المنطقة ومواسيمها ، إضافة إلى دورهم الفعال كوسطاء ووكلاء ضمن نظام تجارة القوافل الصحراوية والتجارة الخارجية، التي اتخذت من مدينة دمنات مركزا رئيسا يربط الجنوب بالشمال اضف الى ذلك متاجرتهم بالرساميل الاجنبية .
و كان للتواجد اليهودي المكثف في المنطقة دور كبير في الرواج التجاري في اسواق دمنات وقيسارياتها الكثيرة بين التجار القادمين من القبلة ومن كبريات المدن والعواصم المغربية المعروفة انذاك كتافيلالت و مراكش وفاس ومكناس والرباط وسوس ، ومن المدن الساحلية كالصويرة وآسفي والجديدة مما جعل دمنات مركزا تجاريا مهما حتى عًد سوقها الاسبوعي اكبر سوق على مستوى الجنوب إلى حدود مراكش ، بما يروج فيه من سلع محلية الصنع كالبلغة والشكارة والاسلحة و المنافخ /الروابز والاواني الفخارية ومن أدوات فلاحية حديدية من فؤوس وسكك ومعاول ومناجل ومن ادوات تستعمل في صناعة الصوف كالمشط والقرشال ومن سلع مستوردة كالبسة القطن والحرير والعطور والحلي . وكانت دمنات تضاهي كبريات المدن في الصناعة التقليدية جودة واتقانا بفضل إبداع الصانع الدمناتي اليهودي والمسلم على السواء ، .... وقد احصى بييرفلامان PIEERE FLAMAND في كتابه ملاح في بلاد البربر 31 حرفة خاصة بالذكور و 13 حرفة نسائية ، و يجمع اهل دمنات ومعهم بعض المؤرخين على أن اليهود هم من أدخل جميع الحرف الى دمنات وكانوا يزاولون مهنة الاسكافي وصناعة الاحذية النسائية والرجالية و لبرادع/السروج والدباغة واللحامة وسك المعادن الفضية بالخصوص وصناعة الغربال والقرشال ....كما زاولت النساء منهم مهنة النسيج والخياطة اليدوية والخياطة بالآلة والطب التقليدي خصوصا فصد الدم ومعالجة الرضع .
لقد انتهى تواجد اليهود بدمنات بشكل شبه كلي بعد فترات استقرار دامت لمئات السنين ، تمكنوا خلالها من ترك بصماتهم على مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية ، كما أنهم أثروا في السكان و تأثروا بهم وأخذوا بعضهم عن بعض العديد من العادات والتقاليد، ولم يبق من ذلك التاريخ سوى ذكريات يعتز بها اليهود والمسلمون الدمناتيون على حد سواء .
الملفت للانتباه اليوم هو انقراض العنصر اليهودي بمنطقة دمنات و بشكل نهائي وتام بعد وفاة آخر يهودية المسماة قيد حياتها " ياقوت /كوطا "، وهي موظفة تابعة لوزارة الداخلية وذلك بسبب الهجرة اليهودية داخل المغرب وخارجه . هذه الهجرة لم تكن قسرية وإرغامية بل كانت طوعية واختيارية، وتمت عبر مراحل مختلفة امتدت من الاربعينيات من القرن العشرين بعد نكبة عام 1948 وكان اعلان قيام دولة إسرائيل بمثابة القنبلة بالنسبة ليهود دمنات ، فقد غيّر هذا الإعلان وضعهم تماماً، واضطر بعضهم إلى السفر لإسرائيل، مع نمو مشاعر العداء لليهود عموماً بسبب المجازر الإسرائيلية بحقّ العرب والفلسطينيين. لكن إسرائيل أيضاً كانت عنصريةً تجاه يهود المغرب، فوفقاً لما ذكره المؤرخ اليهودي المغربي حاييم الزعفراني في كتابه "ألف سنة من حياة اليهود بالمغرب"، فقد وضعت القيادة الإسرائيلية شروطاً لهجرة المغاربة إلى إسرائيل. ففضَّلت قبول الشباب المعافين، الذين يمكنهم العمل، بينما تحتّم على المسنين والمرضى أن يظلُّوا في المؤخرة، بل مات كثيرون منهم قبل أن يحصلوا على فرص الهجرة. وزادت حدة الهجرة مع التدخل الاستعماري في المغرب ثم هاجرت الأغلبية الساحقة من أفرادها مباشرة بعد استقلال المغرب عام 1956، ثم أصبحت مكثفة بعد الهزيمة المذلة للأنظمة العربية في حرب 1967 أمام الكيان الصهيوني، حيث رحل ماتبقى من يهود دمنات باسثناء عائلة "إيشو تكنا " واستقروا في المراكز الحضرية كمراكش والبيضاء والرباط وفاس وآسفي والصويرة، وفي مرحلة نهائية بدأوا يغادرون المغرب في اتجاه بعض الدول الأوربية أو نحو إسرائيل ، و منهم من هاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية وكندا. وبذلك سقط أحد المكونات الأساسية للمورفولوجية الاجتماعية بمنطقة دمنات ،و حُكم بالاختفاء نهائياً على مجتمع ظل مستقراً في البلاد منذ مئات السنين ، وظهرت تركيبة سكانية جديدة بالمنطقة تتكون من العرب والأمازيغ فقط.
و لا بد من التأكيد على أن العنصر اليهودي ظل دوما يشكل جانبا من الجوانب الهامة في المورفولوجيا الاجتماعية لسكان لدمنات كما أنه ظل يحظى بكثير من التقدير والاحترام كما أن العلاقة التي كانت تجمع اليهود بالمسلمين بمختلف الشرائح الاجتماعية الأخرى كانت تنطبع في الغالب بنوع من التعايش والتساكن والتسامح ، كما أن اليهود أثروا بعمق في كثير من القضايا الاجتماعية والتاريخية والثقافية للمنطقة بصفةعامة ولدمنات بصفة خاصة .
إن الحالة التي عاش عليها المسلمون واليهود بمنطقة دمنات لسنوات طويلة تتجاوز بكثير مفهوم التعايش، إلى التثاقف أو التداخل الثقافي والروحي، مشكلة بذلك نموذجا فريدا. هذه الظاهرة التي اختفت منذ هجرة اليهود من دمنات حسب مخططات الصهيونية العالمية ، وكنموذج على التقاطع والتداخل الذي طال المستوى الديني العقدي بين المسلمين واليهود بدمنات ، الاعتقاد المشترك في قدسية نفس الأولياء والمزارات وهي الظاهرة التي رافقت التاريخ اليهودي الاسلامي المشترك بمنطقة دمنات وهو ما اشار اليه السوسيولوجي الفرنسي اديموند دوتي EDMOND DOUTTE (3) الذي زار دمنات يومي 9و10 اكتوبر سنة 1901 في معرض حديثه عن الولي الصالح سيدي ناصر اومهاصر وسيدي بولبركات / سيدي هارون هاكوهين الذي تقام فيه احتفالات الهيلولة هذه الايام ، كأحد المزارات المشتركة بين اليهود والمسلمين بمنطقة دمنات . كما تحدث عن الحماية التي توفرها بعض الزوايا لليهود كزاوية سيدي بولخلف التي احتمى بها اليهود هربا من هجمات السياب واللصوص . ومن سمات التداخل والتثاقف الأثر الراسخ في اللكنة والعادات الاجتماعية مثل طريقة الاحتفال باعراس الخطوبة والزواج كما ان المطبخ الدمناتي يعج بوصفات من قبيل الاسفنج والتريد ومرقة حزينة والتبزيرة الدمناتية المشهورة وطريقة اعداد اسماك النهر ....والزي الدمناتي فالقفطان والجلابة والكسوة ازياء مشتركة بين اليهود والمسلمين و نفسَ الشيء عن الحليّ، فالخميسة من الحلي التي تتزين بها النساءاليهوديات والمسلمات بالاضافة الى عادات كثيرة مرتبطة بالسحر والشعوذة ، وغير ذلك من كلّ ما ليست له علاقة برموز الشعائر والطقوس الدينية. بل حتّى بعض الشارات التي يُعتقَـد خطأً أنها خاصة باليهود، مثل النجمة السداسية (التي لم تبدأ في الرواج كرمز في بعض مدارس القبالة اليهودية سوى في القرن-16م) شاراتٌ تدخل ضمن الشارات الرسمية المغربية من خلال السكة النقدية (إلى حدود نهاية الخمسينات) والخواتم السلطانية المغربية والرايات ومنذ زمان .
مع بداية القرن العشرين بدأت شمس دمنات في الأفول مع فرض الحماية على المغرب وشق طرق جديدة للتجارة أكثر أمنا وظهور وسائل نقل حديثة اختصرت المسافات والتكاليف واندحار الصناعة التقليدية اما غزو الصناعات الحديثة للاسواق ، و تراجع بشكل كبير الانتعاش التجاري الذي ساد المنطقة خلال تواجد اليهود بدمنات ، و تحولت دمنات من مركز تجاري وسياسي ومن حاضرة تتميز بجميع خصوصيات المدن الكبرى ينعم اهلها برغد العيش الى مجرد سوق اسبوعي يرتاده سكان المنطقة للتزود بالمنتوجات المحلية والمواد الغذائية المستوردة من المدن الكبرى
لقد الغت الهجرة قرونا من الوجود السعيد لليهود بدمنات وكان ذلك عبارة عن كارثة بكل المقاييس .
---------------------------------------------------------------------------------------------
هوامش :
(1) القبالا هو كتاب التصوف والزهد اليهودي.
(2) كتاب "زوهار" وهو من الكتب الدينية المهمة لليهود الربانيين ينُسب لشمعون بن يوحاي وهو من أشهر حاخامت التلمود عاش في القرن الثاني الميلادي ،
(3) إدمون دوتي Edmond Doutté، (عاش 1867 - 1926) سوسيولوجي مؤسس أنثروبولوجيا الدين الكولونيالية بالمغرب.