دمنات :الجامع/ المسيد ، ذكريات لاتنسى.
بقلم : د نصر الله البوعيشي

كانت وجهة أطفال دمنات عندما يبلغون سن 5 أو 6 إما الإلتحاق ب " مْعَلَّمْ" لتعلم حرفة معينة أو ب 'الْجَامْعْ /المسيد" لحفظ ما تيسر من الذكر الحكيم في انتظار الالتحاق بالمدرسة.
ويزداد الاقبال على الجماع في فصل الصيف بعد أن تغلق المدارس أبوابها ،،عندما ياتي بهم الأولياء بأبنائهم لحفظ القرءان،
ويكاد لا يخلو حيبدمنات من " لْجَامْعْ/ كُتَّاب":وعلى سبيل المثال لا الحصر
الجامع ملاصق لمسجد ارحبي
جامع زاوية ضريح الولي الصالح سيدي امحمداوسعيد
جامع المرحوم أكنضون برحبة الزيت
جامع مسجد القصبة
جامع الملاح ...
وعلى العموم فالجوامع /الكتاتيب كانت مجرد صحن أوغرف خالية من أية زخرفة أو زينة ،لا تختلف في هندستها عما ألفه الأطفال في بيوتهم ، يتم الدخول اليها إجباريا عبر المرور من أمام الفقيه ، و ذلك بعد تقبيل يده أو رأسه. ومن الفقهاء المشهورينبدمنات الحاج مولاي الجيلالي بوستة واخيه مولاي عمروالفقيه أكنضون وسي بلحاج وسي عبد السلام وغيرهم رحمهم الله .
كان "الطالب" رجلا حنونا وطيبا ، و في نفس الوقت صارما وقاسيا ، يلبس أكثر من جلباب ، ويرتدي فوقها سلهاما ، ويعتمر عمامة بيضاء ، يجلس متربعا على هيضورة / جلد خروف غير الدهر لونها الطبيعي، وضعت فوق قطع من الكرتون وبقايا حصير، ويمنع منعا باتا على الأطفال أن يجلسوا عليه، أو حتى الإقتراب منه. والمصطبة حيث يجلس الفقيه موقع استراتيجي يسمح له بمراقبة الداخل والخارج وتَتَبُّع تحركات ونشاط الأطفال، وعلى يمينه يوجد صندوق إِسْوَدَّ خشبه بفعل قطرات الصمغ التي تقطر عليه من الأقلام القصبية أثناء كتابته على الألواح ، أو أثناء تصحيح محتوياتها ، و فوق الصندوق الذي يقوم في نفس الوقت مقام خزنة ودائع الفقيه ، مجموعة مصاحف قديمة فقدت دفتيها بفعل كثرة الإستعمال مسفرة بشكل سيء ، بواسطة خيط " كْرِيزْيَانْ "المستعمل في حياكة الملابس وإلى جانبها 'تَادْوَاتْ جمع تَدْوَاتِينْ " وهي محبرات زجاجية لحفظ السمخ/الصمغ' حبر اسود يصنع من الصوف الخام المحروق ، أو يشترى جاهزا من عند العطار، بداخل "تَدْوَاتِينْ" أقلام مصنوعة من القصب من مختلف الأشكال والأحجام .
يضج الجامع /المسيد بأصوات المتعلمين كبارا وصغارا ، وينبعث منه خليط من روائح الغبار المتطاير، و رائحة الرطوبة ، وبعض الروائح الكريهة الناتجة عن الغازات التي يطلقها الأطفال لا إراديا ، وأحيانا عن سبق إصرار وترصد ،لإيثارة حفيظة الفقيه . و إذا وشى أحدهم بالذي ' إِرْزَ تَغَاطْ نْ لْجَامْعْ ' ومعناها الذي صدرت عنه تلك الروائح الكريهة ، أو إذا هرب أحدهم من "لْجَامْعْ "، فإن الفقيه يأمر أربعة فتية شداد بحمله، و ينهال بعصاه على أخمص قدميه أو يتولى أقواهم حمله على ظهره واضعا رأسه ورجليه تحت إبطيه ،و يتولى الفقيه ضربه بشدة على رجليه و مؤخرته .وأثناء عملية العقاب يكثر الآخرون من القراءة الجهرية ،وهم يتهامسون ويستهزؤون بزميلهم .
يجلس "إِمْحْضَارْنْ" في صفوف غير منتظمة على الحصير أو على كراسي يحضرونها من منازلهم ، و غير بعيد من عصا الفقيه الطويلة التي تطال جميع الأطفال ، يطرق بها على ألواحهم وأحيانا على أجسامهم ، إذا لاحظ فتورا في القراءة أو استسلام بعضهم للنوم، خصوصا في الصباح الباكر،أو في حصة ما بعد الظهر .
كان على الأطفال حفظ أكبر عدد ممكن من أحزاب القرآن الكريم ، واستظهار ما حفظوه ، وليس مطلوبا منهم ان يفهموا او يفقهوا ما حفظوه عن ظهر قلب .كانت أسعد لحظة هي تلك التي يأذن فيها الفقيه لطفل بمحو لوحته ، بعد أن يتفوق في اختبار الاستظهار ، و محو اللوحة مرتبط بقوة الذاكرة ، وسرعة الحفظ.وتختلف طريقة الحفظ من 'أَمْحْضَارْ"إِلى آخر، فالبعض يجلس في نفس المكان، وهناك من يجلس موليا وجهه نحو الحائط ، مركزا على لوحته غير مبال بما يدور من حوله. ويتم ترسيخ الحفظ عادة بالقراءة الجهرية المتكررة حد الصراخ ، مصحوبة بالضرب على اللوحة ب"أَكْرَّاشْ" /قطعة من الخشب بطول 20سنتمتر تقريبا ، ومن فوائد هذه الطريقة منع شرود الذهن ، كما أنها وسيلة تمكن الفقيه من معرفة أن إمحضارن "ليسوا منشغلين بشيء آخر غير الحفظ .
حفظ السور القرءانية يبتدئ عادة من الأقصر فالقصير، ثم الطويل فالأطول ، حسب سن "أمحضار"، وغالبا ما يقوم "إمحضارن "باستظهار ما تم حفظه على بعضهم البعض قبل المثول أمام الفقيه ، الذي يأذن بمحو اللوحة أو يأمر بالعودة إلى الحفظ من جديد حسب سلطته التقديرية .
يتم محو اللوحة بالماء والصلصال بعناية كبيرة فوق قدر كبير من الطين ، و كان الاعتقاد السائد ان خليط الحروف القرءانية والصلصال الناتح عن عملية المحو يشفي المرضى ويقي من المس . وبعد أن تجف اللوحة تحت أشعة الشمس، يقوم الفقيه بكتابة الآيات الجديدة بالنسبة للمبتدئين ، فيما يتولى الكبار نقلها بأنفسهم من المصحف وعرضها على الفقيه لتصحيحها قبل الشروع في حفظها . و 'يَفْتِي / يُمْلِي الفقيه الجزء المراد كتابته على كبار" امحضارن " وبعد الانتهاء من الكتابة ، تعرض اللوحة المكتوبة على الفقيه ليصحح ما كتب ويضع علامات الوقف . وقبل الشروع في الحفظ لا بد من تلاوة ما كتب على اللوحة على مسامع الفقيه لتصحيح أخطاء النطق. وأحيانا يقوم الفقيه بإملاء أكثر من سورة على أكثر من ” امحضار“ في نفس الوقت .
ينظم حفل خاص ب " امحضارن" الذين ختموا حفظ القرآن يعرف بـ"السلكة/ التخريجة " تزخرف فيه لوحة الختم بألوان زاهية، وتكتب عليها آيات قرآنية كريمة بخط جميل ، ونجمات خماسية تعلوها دوائر صغيرة، وأشكال هندسية ، تحمل رموزا مرسومة بحروف أَبجدية ، وهي مناسبة لباقي "امحضارن" للاستفادة من نصف أو بعض يوم 'تحريرة / عطلة .
و يوم كل أربعاء وأحد ، كان الأطفال يقدمون للفقيه الذين يتتلمذون على يديه "لاَرْبْعْ"و" لْحْدْ" وهي أجرة أسبوعية، ، عادة ما تكون 2 ريال للصغار و4 ريال للكبار او أقل أو أكثر حسب المستوى الإجتماعيل"أمحضار"، إضافة إلى بعض الهبات والتبرعات والهدايا التي تعطى للفقيه في الأعياد والمناسبات الخاصة، كما تلتزم بعض الأسر بالمداومة على تقديم وجبات غذائية/" تَرِتْبِييْتْ" ل"لْمْسَافِرِينْ"وهم طلبة من مختلف الأعمار ومن مختلف الدواوير بالمنطقة وأحيانا من خارجها ،الذين يعتكفون في جناح خاص بهم مرتبط بجامع " أرحبي" لحفظ القراءان الكريم .
وكانت القبائل تخصص بعض أعشار محاصيلها الزراعية علاوة على أحباسها لتسيير هذه " المدرسة " وتدبيرها وتموينها وصيانتها وإصلاحها، وتدفع أجرة الفقيه. وكان بعض سكان دمنات يتنافسون في مساعدة " لمسافرين" على أداء مهمتهم ، لأن ذلك يعتبر مفخرة شريفة ومنقبة حميدة وصدقة جارية.
ينشغل الطلبة طيلة اليوم ، بحفظ القرآن الكريم ابتداء من ساعة الفجر الأولى إلى صلاة العشاء ، تتخللها فترات تناول الطعام ، وأخذ قسط من الراحة، فيما يعتبر يوم الخميس والجمعة صباحا عطلة للطلبة يستريحون فيها من أسبوع من الحفظ.
وتتم طريقة حفظ القرآن الكريم جماعة او بشكل انفرادي ، حيث ينزوي في غرفته ويبدأ في حفظ سور من القرآن الكريم ، حسب ما سطره له " الطالب أَختار/ الفقيه الكبير"، وهو مولاي الجيلالي بوستة تغمده الله برحمته الواسعة، ويدعى كذلك للتفريق بينه وبين أخيه بوستة مولاي عمر رحمه الله الذي يدعى "الطالب أَمْزَّانْ / الفقيه الصغير" ، وليس المقصود هنا بالكبير والصغير سعة العلم بقدر ما هي صفة للتمييز بين مولاي الجيلالي المكلف بتحفيظ الكبار " لمسافرين"ومولاي عمر المكلف بتحفيظ الصغار" امحضارن"أو ربما لكون "الطالب أختار"يجمع بين مهمتي التدريس و الإشراف على التدبير المادي والمالي للأحباس الموقفة للمدرسة بصفته ممثلا لناظر الأحباس بدمنات .وربما يتعلق الأمر بفارق السن فقط لا غير. فمولاي الجيلالي أكبر سنا من مولاي عمر على ما يبدو .
و تبقى أيام الجامع الجميلة والمؤلمة من أجمل ايام الطفولة الراسخة في الذهن : اللوحة ، الدواة والسمخ/ الصمغ ، الصلصال و التحريرة ، التحميلة ، لفلقة ، تَغَاطْ نْ الجامع .....
ومن الذكريات الجميلة التي لا تنسى يوم التخريجة :
كان يوم التخريجة من الايام التي يتطلع اليها إمحضارن والفقهاء بفرح كبير ، يبتديء هذا اليوم السعيد بتهييء دواة الفقيه للمعني بالأمر وبها عدة ثقوب كل ثقبة تحتوي على مداد أحمر وأزرق وأصفر بجانب مداد الصمغ من اجل تزويق اللوحة وعلى الطالب المتخرج ان يتفنن في ابداع الرسم الذي تجود به قريحته وبمجرد ما ينتهي من تزويق لوحته تبدا استعدادات الخروج والطواف والذهاب الى بيت الاسرة .يلبس الطالب جلابة بيضاء وبلغة صفراء ويركب حصانا كالسلطان يحفه جمع غفير من الصبيان /امحضارن بجانب افراد العائلة وسط هرج ومرج و ترتفع الزغاريد وسط اصوات " الله حافظه " وتتسارع الخطى في اتجاه المنزل حيث وليمة دسمة كبيرة تنتظر المرافقين وعلى عتبات الدار يقدم للجميع بالتمر والحليب .
الأدوات المستعملة في تعلم الكتابة والقراءة وحفظ القران في الجامع /المسيد
وهي مأخوذة من المحيط البيئي للإنسان .
- اللوحة : قطعة خشبية مختلفة الاحجام حسب سن " أمحضار "
- الصلصال: تطلى هذه اللوحة بالصلصال ، وهو طين صلب ترابي رمادي اللون عندما يضاف اليه الماء يصبح لزجا
تطلى به اللوحة ثم تعرض للشمس او الهواء لتجف فيمسح الصلصال او يحك برفق لتصبح اللوحة جاهزة للكتابة ،
- الصمغ : يصنع من صوف الغنم الخشن ينقع الصوف في ماء يغلى على النار مع التحريك الخفيف إلى أن يتحول الى سائل اسود لزج سريع المحو بالماء. ، يخلص من الشوائب ويضاف إليه الماء ليوضع في دواة و يستعمل في الكتابة على اللوح. كان الفقيه هو صانع ومحضر هذا الصمغ …وقد يتعلم بعض كبار" امحضارن" هذه التقنية … كما يمكن شراؤه من دكاكيين العطارة.
- القلم : وهو أداة الكتابة الأساسية الصالحة لتزين وجه اللوحة بالكلمات يصنع من القصب ، يكون في طول قلم الحبر الجاف مع عرض اكبر..له رأس يشبه ريشة الكتابة يتراوح بين الدقة و الغلض حسب رغبة صاحبه..وله قاعدة أعرض من الرأس صلبة محكوكة وقادعة القلم تستعمل في رسم الحروف والكلمات على اللوحة قبل كتابتها بالصمغ خصوصا للمبتدئين من امحضارن حيث يقوم المبتديء بتتبع هذا الرسم لكتابة الحروف والكلمات ليتعلم الكتابة والإملاء.. وكلما استعمل بكثرة كلما اصبح الخط أجود …
- أكراش : وهو أداة خشبية عجيبة مصنوعة من فرع شجرة متوسط الحجم والقطر يستعمله "أمحضار " في الضرب على اللوح براسين متساويين يحك بها التلميذ وجه اللوح صعودا ونزولا وهو يحفظ المكتوب عليه ، دلالة على رغبته الشديدة في الحفظ بسرعة ، ونظرا لكثرة الحك صعودا ونزولا على وجه اللوح فان معالم الكلمات تنمحي لان الصمغ ليس شديد اللصوق مثل الحبر الصيني وإنما يمحي بسهولة اكبر ولا يترك أثرا واضحا مثل بعض الحبر…أكراش لا يستعمله إلا الكبار من "إحضارن " أما فإنهم يكتفون بالحفظ العادي.