تدوين التاريخ المحلي وندرة المصادر
بقلم : ذ أحمد لعيوني
إن تدوين التاريخ المحلي للمدن والمراكز الصغيرة يؤدي إلى إيصال معلومات للعموم لكي يستفيدوا منها، وطبعا بعد التحقق بالموضوع وتحري الصدق في نقل الخبر والتزام الحياد في معالجته مع اعتماد التحفيز الذاتي التطوعي والبعيد عن التأثير بالعائد المادي، بقدر ما يكون الهدف هو إفادة القارئ. لذا فإن هذا العمل يتطلب مكونات وأدوات أكثر دقة مما هو عليه الحال بالنسبة للتاريخ الجهوي أو الوطني. فهو يتناول جوانب متعددة من حياة الأفراد أو الجماعة التي تتكون منها دائرة البحث، بحيث يدرس الباحث مكونات السكان من جوانب متعددة، إن لم نقل يمكنه البحث في ظروف عيش جيل أو عدة أجيال في مراحل سابقة له، والوسائل المستعملة في هذا العيش، بمعنى أن يقوم بمسح مونوغرافي، سوسيولوجي وأنثروبولوجي لفترة لم يعشها. ولابد لبحثه أن يقوم على أسس ومعايير مضبوطة، ليتكون من معطيات ومعلومات أقرب ما يمكن إلى الحقيقة وبطريقة منطقية يتقبلها العقل النقدي للقارئ والمتتبع. وبطبيعة الحال أن لا تكون المعلومات فضفاضة أو مبنية على خوارق وعجائب وكرامات أو يقصد منها إظهار استعلاء وبطولات فئة على حساب أخرى. أو التنقيص واحتقار طائفة معاكسة. بمعنى آخر ينبغي تجنب الاعتماد على تلك الحكايات التنمرية والساخرة والتي تحط من معنويات جهة لفائدة الرفع من الجهة الموالية للحاكي. وتلك التي تتصف بالتحيز والتعصب.
ونحن نبحث في كتابة التاريخ المحلي لمنطقة قروية بامتياز (منطقة امزاب بالشاوية نموذجا) في زمن مضى، ولو ظهرت بها بعض بوادر التمدن في العقود الأخيرة، لكنها لا تحتفظ بمكونات كافية تجعلنا نستمد منها ما يشكل نصا معرفيا يمد القارئ بالمعلومات الحقيقية للفترة التي نريد دراستها. نجد أن التدوين في السابق كان منعدما لدى سكان البادية، ليس في الفترة ما قبل بداية القرن العشرين، وحتى قبل دخول الاستعمار الفرنسي، وبداية ظهور المدارس العصرية، وتخرج متعلمين بالمنطقة، حققوا مستوى لا بأس به من التعليم والتحصيل، الذي كان بإمكانه أن يؤدي إلى ظهور بوادر تدوين الأحداث، وخاصة الكبرى منها، في حالة الاحتكاك العنيف مع المستعمر، أثناء ظهور قيادات وزعماء بالمنطقة، أحداث اقتصادية واجتماعية وطبيعية، والحركة الوطنية المحلية، ومقاومة الاستعمار. غالبا ما كانت الأحداث تدون في ذاكرة الأشخاص، وتنتقل شفهيا عن طريق الحكي، ويتم حفظها بطريقة السمع. وقد تؤرخ في أحيان كثيرة نسبة إلى الحدث نفسه (عام البون، عام الجوع، عام ماريكان، عام نفي الملك، عام الصابة، عام الجراد..) هي معلومات لا تخلو من نقل وقائع حدثت أطوارها في الواقع، لكنها تنتقل بما يضفي عليها من الزيادة والحذف، وحتى إضافة مفهوم البركة والخوارق لتمجيد طرف على حساب آخر.
الباحث في التاريخ المحلي الذي يقوم بعمل تطوعي، بناء على المبادرة الفردية والمجهودات الشخصية، وحمّل نفسه هم التدوين لمنطقته بدافع التعريف بها، وإبراز معالمها، ورجالاتها والأحداث التي مرت منها خلال عقود سابقة، أو حتى لأكثر من قرن من الزمن، غالبا ما يصطدم بحواجز وتعترضه عقبات في الوصول إلى مصادر البحث، التي تكون غير متاحة بالقدر الكافي الذي يخول له الدخول في غمار هذا المجال. ويقول البعض بأنه كان عليه أن يتنحى ويترك الأمر وشأنه. وقد سمعنا عن كثير من الأشخاص الذين كانت لهم قريحة البحث، ومحاولة التدوين لتاريخ مناطقهم، لكنهم تخلوا عن المشروع في منتصف الطريق، ولم يتوفقوا في استكماله، نظرا لوجود عوائق، وانسداد باب مصادر المعلومات، وتوقفوا عن الاستمرار في البحث والتنقيب وتتبع القنوات التي توصل إلى نبراس الضوء أو الهدف المتوخى، لتعرضهم لبعض الخيوط المتقطعة، أو لوجود فراغات خلال بعض الحقب صعب عليهم الربط بينها.
تجربة شخصية مررت بها في انجاز بعض الأعمال المتواضعة لكتابة صفحات من تاريخ منطقة امزاب بالشاوية. وربما لكل باحث تجربته الخاصة به، في دراسة تاريخ منطقة قروية كان التعليم بها نادرا، ولا يتجاوز بعض حفظة القرآن الكريم، فما بالك بلجوئهم إلى التدوين وتسجيل ما يطرأ من الأحداث. وحتى وإن وجدت وثائق تحمل بعض الإشارات لفترة ما، فإن غالبية السكان كانوا يعيشون في حالة تنقل مستمر، ويسكنون خياما إلى حدود الأربعينيات، ليتم التحول إلى سكن النوايل، ولم يتم اللجوء إلى بناء الدور أو بالأحرى غرف متفرقة عن بعضها داخل سور إلا في بداية الستينيات. وأنا أتحدث هنا عن منطقتي، منطقة امزاب بالشاوية. جانب الاستقرار السكني له دور مهم في الحفاظ على الوثائق، لكن وحتى يومنا هذا، وفي كثير من المناطق التي خرجت من حالة البدونة لتستقر في مراكز حضرية صغيرة أو متوسطة، لازالت لا تتوفر بعد على ثقافة الحفاظ على الوثائق والاهتمام بها، اللهم فيما يخص وثائق الملكيات وعقود الزواج.
وقد توجد بعض العائلات كانت تتوفر على الاستقرار، ومن الممكن أن توجد لديها وثائق قد تلعب دورا في الكشف عن أحداث خلال حقبة زمنية معينة، نظرا لدور هذه العائلات في القبيلة. لكن ورثتها يتحفظون في الكشف عنها لتسليط الضوء عليها، لاعتبارات خاصة للحفاظ على أسرار السلف، كالإثراء السريع، أو حالة الإفلاس، أو بالنسبة لأعوان ورجال السلطة والقرابة من دوائر المخزن، أو السلطات الاستعمارية. وقد يعتبر بعضهم أن تاريخ تلك الحقبة أصبح يحمل ندوب العار فيتسترون عليه، وهذا شأنهم وإن كان يحجب معرفة فترة زمنية معينة. بالإضافة إلى ذلك ما خلفته الصراعات القبلية ومرحلة الفوضى أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين (زمن السيبا) التي أدت إلى تدمير قصبات القياد ودور الأثرياء، وكان سببا في إتلاف الوثائق والآثار من نقش على الخشب، وأواني، وكل ما يتعلق بالعمران، وطمس العديد من المعالم التي كان من الممكن أن تدل على نمط عيش رفيع لدى بعض العائلات في الوسط القروي.
وقد أمكننا الرجوع إلى تدوينات المستعمر عند دخوله المنطقة، لما كان يتوفر عليه من إمكانيات لتسجيل الأحداث، ونظرا لثقافته في هذا المجال، رغم أن المحتل كان يصف الوضع من الجانب الذي يناسب تفوقه واستعلائه. كما أن بعض الكتابات تقدم أوصافا قدحية في حق المغاربة، أو تضفي جوانب من تعسفات سلطوية بتجنبه الحديث عن الدوافع الحقيقية التي جاء من أجلها. كما يمكن الرجوع إلى أرشيف السلطات الإدارية الاستعمارية، من المراقبة المدنية، والقطاعات العمومية، وهي غير متوفرة ببقايا هذه الإدارات. جزء منها يمكن الاطلاع عليه بمؤسسة أرشيف المغرب، ولكن أغلب هذه الأرشيفات تم نقلها إلى فرنسا، وتقبع في مراكزها، منها "مركز الأرشيف الدبلوماسي بمدينة نانت". أو الأرشيف العسكري بقصر فانسان وغيره، وغالبا ما يتطلب ترخيصا للدخول إليه. والباحث المتطوع غير الأكاديمي يصعب عليه التنقل للبحث عن هذه المعطيات، وعلى حسابه الخاص، نظرا لما يتطلبه الحصول على تأشيرة الدخول ومصاريف التنقل والإقامة من أجل الوصول إلى وثائق عمومية كان بالأحرى أن توفر داخل الوطن.
هناك وثائق أخرى يمكن الرجوع إليها، منها المقابر القديمة (مقابر البورغواطيين مثلا بمناطق متفرقة بالشاوية، طريقة الدفن، وبناء القبور لديهم)، بعض النقود والمسكوكات القديمة. الأشعار الزجلية والأغاني الشعبية، وما تحمله من معاني يمكننا الاستخلاص من خلالها أحداثا ووقائع جرت أطوارها في فترة زمنية ما. بعض الصور والبطاقات والرسائل التي كان يبعثها الجنود الفرنسيون خلال الغزو الاستعماري.
أما عن الأرشيف الإداري بعد حصول الاستقلال، فحدث ولا حرج. فهو إما أنه يحاط بهالة من الكتمان، أو يتم إتلافه بداعي عدم جدواه، والتخلص منه لعدم وجود مكان للحفاظ عليه. كما لا يراعى في تصميم الإدارات العمومية، الأخذ بعين الاعتبار إنشاء مكان يستغل لحفظ الأرشيف مزود بمقومات خاصة بهذا الغرض.
وسائل البحث التاريخي ومناهجه
يعتمد البحث التاريخي عموما على الوثائق المكتوبة من أجل الوصول إلى المعلومة التاريخية بتحليل مضمون الوثيقة ودراستها ووضعها في زمنها من حيث شكل الورق والخط والحبر وأسلوب اللغة التي كتبت بها، وتمحيصها والتأكد من صدقيتها، وجدية مقصدها، وظروف صدورها، ومعطيات أخرى تتعلق بالفترة التي صدرت فيها يمكن أن تظهر من خلال أنجاز العمل.
ولكن، ومع ذلك نظرا لقلة أو انعدام الوثيقة، وما يتطلبه الأمر من كتابة نص يسرد الوقائع والأحداث، لابد من اللجوء إلى وثائق غير مكتوبة كالحفريات، إلا أن هذه الوثيقة تحتاج إلى تخصص وتقنية الأركيولوجي، والترخيص الرسمي للقيام بهذا العمل. ثم هناك الرواية الشفوية، وهي الوسيلة المتوفرة بكثرة، ولا تتطلب كثير العناء للوصول إليها، وخاصة مما تحمله ذاكرة مسنين عاشوا خلال الحقبة المدروسة، أو أنهم سمعوا عن أحداث سابقة عمن هم أقدم منهم سنا. إن كانت هذه الشهادات تعطي صورة حية عما وقع من أحداث، فإنها تتطلب بدورها التحري في صحتها والتدقيق في نسبها. ومع ذلك فلها دور مهم في ربط الماضي بالحاضر، وملأ الفراغات التي تناستها الوثائق، أو تم ضياعها. تصبح آنذاك الرواية خزانا ومرجعا لموروث ثقافي يتناول القيم والعوائد والأعراف والأنماط السلوكية الدفينة في المتخيل الجماعي. ويمكن أن تنير الطريق لتفسير الوثائق المكتوبة وتغنيها.
هناك الحكي والروايات الأدبية التاريخية، بدورها تقدم معلومات تاريخية ليست بالهينة، من حيث ذكر الشخصيات والأماكن والأحداث، لكنها تطلق العنان للحرية والمتخيل بحسب إبداع الكاتب وإحساسه، وما يحلم به للتعبير عن رأيه الشخصي أو في إطار جماعي لفئة يدافع عنها. فالرواية التاريخية كما يقول الدكتور حسن أوريد، هي ذلك الصادق الكاذب. فهي وإن كانت تعبير خيالي، فإنه قد يكون غير منفصل عن الواقع. ويمكن من خلالها، ومن بين سطورها قراءة شذرات من التاريخ، كالأمكنة والشخصيات والأحداث، لكنها ليست الصدق الكامل.
أما لدى الباحث في التاريخ فلا يملك حرية التصرف في الحكي. بل هناك قيود تضع له الحدود التي ينبغي أن يسلكها، وتفرض عليه التشبث بسرد الوقائع الحقيقية، وتحري التدقيق في التفاصيل. وهذا العمل يحتاج إلى أرشيف ينبغي الاعتماد عليه والتأكد من صحته وموضوعيته. ولكي يكون عمل الباحث مقاربا للصواب والحقيقة لابد من لجوئه إلى عملية النقد للكشف عن أمور هامة، منها : الكشف عن التحيز من عدمه. وأيضا التحري إن كان هناك تزييف للحقائق من خلال المصادر التي يكون صاحبها يهدف إلى غرض معين.