دمنات : من يوميات "عام البون بويهوكن وأعمال السخرة "الجزء 2 الحلقة 01 السجن والمحاكمة
بقلم : ذ . عصام صولجاني
مثل عتاة المجرمين، ساقنا عسس القائد الگلاوي، نحو سجن القصبة.يتقدمنا عنصران من فرسان "السبايس" فوق ظهور جيادهم. ومن حولنا تشكيلة من الكوم والمخازنية والقلوغلية عددهم ستة أنفار. وحشد غفير من الفضوليين. سمعت امرأة تقول:
- سكوكو برا والباس.
وعبارات أخرى مليئة بالسخرية والشماتة. تصل إلى مسامعنا من هنا وهناك. ربطنا العسس الأوغاد بالحبال التي شبكوها حول أجسامنا بطريقة تكاد تشل الحركة تسمى "تراتسا". حبال ملطخة بالدم، تفوح منها رائحة الصديد الكريهة. صرخ غريمنا السرغيني متوعدا صديقي المعياضي بالقتل. أما رفيقيه فقد شرعا في استعطاف العسس کي يطلقوا سراحهم لكن من دون جدوى. ورغم أن المسافة من باب إعرابن وسجن القصبة قصيرة جدا. إلا أنها كانت ثقيلة وطويلة. نظرا للخوف والرعب الذي سيطر على تفكيرنا، وتوقعنا لحدوث الأسوأ. قال صديقي المعياضي لغريمه السرغيني:
- أنت البادئ بالهجوم وقد نلت ما تستحق.
وصاح في وجهنا كبير العسس، وكان رجلا طويل القامة، أسود البشرة، تبدو على وجنتيه ندوبا، ذو أنف كبير وعينان حمراوين:
- اصمتوا يا أبناء الأثان، لقد جلبتم العار لأنفسكم ولعائلاتكم.
وصلنا أخيرا إلى حي القصبة. فتفرق من حولنا حشد الفضوليين الذين تفرجوا وشمتوا على اعتقالنا. مررنا من تحت سقيفة منزل طيني خرب. نحو درج يقود إلى دهليز. زلت قدم أحد السرغينيين وسقط على أحد الأدراج. فصاح فيه أحد العسس:
- أزليف أزليف نك نكر أياكسعون .
ولجنا إلى قبو عبارة عن غرف بلا أبواب تتوسطه ساحة مفتوحة على السماء. قال لي المعياضي:
- هذه هي "المدود" التي يسكنها الخيل والبغال في قديم الزمان.
كان السجن فارغا من النزلاء في ذلك اليوم. مكان موحش تفوح منه رائحة غربية. جاء حارس السجن مع رجل جاحظ العينين. ذو أنف صغيرة وفم أذرد. ووجه مثقوب مثل الغربال بفعل مخلفات مرض الجذري. وأمره الحارس:
- أيها الحداد ضع القيود في أقدام هؤلاء الأشقياء. فأفرغ الحداد حاملة أغراضه "تزگاوت" على الأرض. فسمع صدى صرير القيود الحديدية مجلجلا في أرجاء السجن. وأخذ في تكبيل أقدامنا بطريقة همجية. أحسست بألم شديد في كوع قدمي. لأن قطر القيد كان صغيرا. لم أجرؤ على الكلام. وما أن انتهى الحداد من عمله، حتى سارع حراس السجن في فك الحبال عن أجسادنا. لقد كنا فيها مثل فراشات في مصايد عناكب. أقفل علينا الحراس باب السجن. فأخذت في استجلاء معالم المكان. متحركا ببطئ شديد خشية السقوط. ففوجئت بوجود مطمورة زيت مهجورة. مليئة بعضام وجماجم بشرية. فتملكني الرعب. دنوت من صديقي المعياضي، وهمست في أذنه بما رأيت. نهض فورا واتجه نحو زاوية السجن حتى تأكد من وجود رفاة بشرية. كان السرغينون الثلاثة يجلسون مسندين ظهورهم على سور السجن. محدقين في السماء. نادى عليهم المعياضي وأشار إليهم بالذهاب لرؤية حفرة الموت. وما أن رأوها حتى تجمد الدم في عروقهم. وخرست ألسنتهم. فساد صمت عميق. ودخل كل واحد منا في عالمه. قلت للمعياضي:
لو قتلونا ورموا بجثتنا في هذه المطمورة من سيعلم بهلاكنا؟.
أحد السرغينيين أخذ في لطم وجهه بكلتا يديه في صمت. قلت له مواسيا:
- اجعل رجاءك في الله.
نظر إلي المعياضي نظرة الواثق من نفسه وقال:
- غدا سيأتى أبي عند القائد وسيطلق سراحي فورا.
- وهل علم والدك بخبر اعتقالك؟
- الكثير من الفضوليين شغلهم هو نقل الأخبار. وقد كانوا بين الحشد الذي شيعنا نحو سجن القصبة. وقد رأيت من بينهم أحد الذين يعرفون والدي .
قال المعياضي مخاطبا غريمه السرغيني:
- كنا عائدين إلى ديارنا منتشين فرحين حتى أتيت من العدم، لتعكر صفو فرحتنا. معتقدا أننا لقمة سائغة. وها أنت ترى المصيبة التي أوقعتنا فيها. أما عن الرومية التي استكثرت علي معاشرتها فاعلم أنها ملك لكل من يدفع أكثر.
تلطخت ملابس السرغيني ورفيقيه بفعل قوة الضربات التي سددها لهم هرقل تاودانوست المسمى أزگر. طأطأ السرغيني رأسه ولم ينبس ببنت شفة. سأله المعيافي مستغربا:
- لماذا صمتت؟
وأردف له قائلا :
- اعلم أننا في دمنات لا نظلم أحدا، ولكن إذا ما اعتدى علينا فإننا ننتقم شر انتقام.
حل المساء وبدأ الغسق في الهبوط من فراغ سقف السجن. مع برودة هواء تقشعر لها الأبدان، نال مني الجوع، ولم أعد أتحمل كثرة الكلام. رفع أذان صلاة المغرب من مسجد القصبة. بصوت المؤذن ذي الصوت الشجي. جاء أحد العسس وفي يده قدر طيني. أفرغ منه الزيت في قنديل معلق على الجدار الملاصق لباب السجن. ثم أوقده فأضاء ضوءا خافتا. شمل باحة السجن. جلسنا مسندين ظهورنا على جدار السجن نترقب المفاجآت. حتى رفع أذان صلاة العشاء. سمعت شخير أحدهم وهو يغط في نوم عمیق. فجأة فتح الحارس باب السجن. فدخل علينا أحد عناصر الگوم ، مصحوبا بخادم يحمل فوق رأسه إناء خشبيا، مليئة بالكسكس تفوح منه رائحة السمن البلدي. قال لنا الگومي ساخرا:
- حظكم يكسر الحجر. لم يأكل ضيوف سيدنا القائد كثيرا. وإلا لقضيتم الليل من دون عشاء.
تحلقنا حول قصعة الكسكس، وأخذنا نلقم أفواهنا بكرات متتالية من الكسكس، حتى أتينا عليها كاملة. لقد نال منا الجوع، فكانت هذه اللقيمات الدافئة من هذا الكسكس، مثل بلسم أعاد لي الحياة. خاصة أنا والمعياضي. فقد بتنا ساهرين مع الغواني نكرع كؤوس الخمر طوال الليل. أخرج السرغينى من جيب سترته قطعة جلدية. فتحها ثم تناول عمود السبسي وملأ رأسه الطيني بمسحوق الكيف. وأخذ يسحب في الذخان سحبات متتالية هو ورفاقه. مد السرغيني عمود السبسي إلى صديقي المعياضي. تناوله وأخذ ينتشي من ذخانه. مرددا بسخرية:
- اللهم طريق السبسي ولا طريق الرومية.
أما أنا فلم أستسغ رائحته. وقد كان لذخان الكيف مفعولا سحريا، إذ سرعان ما خلذ القوم إلى النوم. لم يغمض لي جفن بقيت مركزا عيناي على شعلة القنديل وهي تتراقص، وتتضاءل حتى انطفئت. ومع انطلاق المؤذن في تلاوة أوراد التهليلة الأولى. أخذتني غفوة واستسلمت لسلطان النوم. كان فراشنا الأرض وغطاءنا السماء. مع شروق شمس اليوم الموالي. فتح علينا السجان باب السجن. وكان صوت صرير مزلاج الباب قويا. جعل كل من لا يزال نائما يستفيق. نادى علينا السجان بكلام كله ذم واحتقار:
- استعدوا للمحاكمة يا كلاب المذبح.
كانت ملابس السرغينيين ملطخة بالدماء. جراء نزيف أنف أحدهم. بحيث تطايرت قطرات الدم بينهم وقت العراك. مما جعلني أتوجس من أن يكون الدم حجة لإدانتنا.
أمرنا السجان بالخروج في صف مستقيم. واحدا تلو الآخر. كانت حلقات القيد تؤلمنى بشدة. وكنا نسير ببطئ شديد مما دفع بأحد الحراس إلى دفع أحدنا بیده. ملوحا بسوط جلدي طويل:
تقدموا بسرعة لملاقاة مصيركم وإلا سأجلدكم.
وصلنا أمام بوابة خشبية كبيرة مزركشة بألوان زاهية. بها باب جانبی مفتوح. ووقفنا نترقب موعد المحاكمة. فجأة وصل والد صديقي المعياضي رفقة ثلاثة رجال يبدو انهم من أعيان دمنات. كانوا جميعهم يرتدون ملابس مخزنية أنيقة. دخلوا من البوابة الصغيرة لمحكمة القايد. وماهي إلا لحظات حتى خرجوا منها والابتسامة تعلو محياهم. تبعهم على التو كاتب القائد، شاب بلحية سوداء مشذبة. يرتدي جلبابا أبيض وسلهاما أصفر . نادي على أحد العسس وأشار له بأصبعه نحو صديقى المعياضي قائلا:
- اطلق سراح هذا الشاب فورا؟.
وبعد لحظات جاء الحداد جاحظ العينين فنزع القيود من قدمي المعياضي . تقدم المعياضي نحو والده وعانقه بحرارة، وقبل يده. ثم انصرفا إلى حال سبيلهم. بدأت الساحة المقابلة لمحكمة القائد تمتلئ بالمتقاضين، من أصحاب المنازعات العقارية، ومن الوشاة والبرگاگة. دخل السرغينون الثلاثة دفعة واحدة ووقفوا أمام القائد. وأمكنني سماع خليفة القائد وهو يوبخهم قائلا:
- إلى شديناكم مرة أخرى غانخزنوكم خزين الزرع.
فأقسموا أمام القائد على المصحف الشريف على عدم إثارة المشاكل بدمنات مرة أخرى. أطلق سراحهم جميعا . وغادروا مجلس المحاكمة فرحين. نزع الحداد القيود من أرجلهم ثم ذهبوا مسرعين حتى اختفوا عن الأنظار. جاء دوری ودخلت مرتعشا إلى بهو محكمة القائد الگلاوي فانبهرت لجمال السقف الخشبي المصنوع بطريقة "الورقة والگايزة ". بمثلثات هندسية متناسقة يتدلى من وسطها سلسال فضي، مشبوك عليه ثريا خشبية.محفور عليها أسماء الله الحسنى مع فسيفساء بألوان الطيف، مثل خلايا النحل. وعلى الأرضية زرابي مفروشة بعناية. وكنبات جلدية. وما أثار انتباهي أكثر، هو زجاج النجف العراقي الفيروزي، الموضوع على النوافذ. الذي كان وقتها تخترقه الشمس وأضفى على مكتب القائد رونقا وجمالا أخاذا. وسط عبق من عود القماري وماء الورد. وكان القائد يرفل بجلابيبه الحريرية وبرنوسه البزيوي. يجلس القرفصاء على كرسي دائري عريض من كراسي الأئمة في مجالس العلم. وكانت ملامح وجهه في ذلك الصباح متراخية. لكنني لمحت في عينيه بريقا مشعا. سألنى بصوت كهفي هادئ:
- أين تسكن؟
- في تاودانوست.
- هل تعرف الفقيه الحاج علي نايت الشرط،
- نعم إنه شيخي ومعلمي في كتاب أيت بوجمعة.
- هل حفظت كتاب الله؟
- حفظت منه عدة أجزاء.
- طيب اقرأ لي من حزب قال فما خطبكم أيها الأولون؟
أحسست في أعماقي بفرح لا يوصف، لأن هذا الحزب كنت أحفظه عن ظهر قلب. من دون أن أرتكب فيه اي خطأ. أخذت أتلو على مسامعه الحزب بسرعة، وهو ينصت لي في إمعان. حتى ختم بقوله صدق الله العظيم.
خاطبني بلهجة أبوية :
- أنت من حفظة كتاب الله. فلماذا جئت مع هذه الزمرة الفاسدة، تنشرون المشاكل بالمدينة؟
أجبته باستعطاف:
- هذا من طيش الشباب. أعدكم أنه لن يتكرر.
مد يده أسفل كرسيه، وقام بسحب طرف الزربية. وتناول صرة ملفوفة في قماش وسلمها لي قائلا:
- خذ يا بني ما يعينك على حفظ القرآن الكريم. خرجت من محكمة القائد مرفوع الرأس ومعي هدية قيمة من القائد. الله أعلم بمحتواها. غادرت محيط القصبة تسبقني خطاي في اتجاه باب إعرابن. تعقبني أحد العسس وهو يسألني بصوت منخفظ:
- ماذا يوجد في الصرة التي أعطاك القائد؟
أجبته بانفعال:
- وما شأنك أنت؟ إذا لم تعد أدراجك سأعود عند القائد لأشتكيك. أنا فقيه حامل لكتاب الله.
رد علي بخوف:
- أنا متايب لله أمولاي الله يعز الطلبة.
وعاد أدراجه مسرعا. ابتعدت عن حي القصة، ولما وصلت محل السيد لوازيس بائع الخمور اشتريت زجاجة کونیاک كبيرة. واختفيت بين الأشجار في متجها نحو منزلي بتاودانوست. وعند مستشفى إسران فتحت زجاجة الكونياك، وشربتها دفعة واحدة ((كريرو)). وعيني على حوض السبليونية مولات الخال. لكن هيهات والداي هناك بالبيت الله اعلم بحالهما...
عصام صولجاني.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
دمنات : من يوميات "عام البون بويهوكن وأعمال السخرة "الجزء 2 الحلقة 2 السجن والمحاكمة
بقلم : ذ: عصام صولجاني
أخذ مشروب الكونياك يسري في بدني، مثل مد بحري هادئ. ونشوة الفرح تكاد تحملني مثل طائر فوق أحضان الطبيعة. غير مكترث لغيابي المفاجئ عن المنزل. وتوقفي عن مواصلة التزاماتي اليومية في الحقل. وأثر كل ذلك على مشاعر والدي وأمي. أسير بخطوات متسارعة، بين البساتين وأشجار الزيتون. الشمس متوهجة في وسط السماء. ترسل إلى الأرض أشعتها بسخاء. وتغاريد الطيور المختلفة، يتردد صداها بين الفجاج. مررت قرب ضيعة فلاحية مسقية، مليئة بأشجار السفرجل والبرقوق. قطفت من هاتين الفاكهتين بضع حبات. وجلست أقضمها بشراهة. كانت معدتي الفارغة تقول لي هل من مزيد. فأنهض لأقطف ثمرات ناضجة وألتهمها. كم هي لذيذة فاكهة الموسم، بعد سنة من القحط والجفاف. قلت في نفسي وأنا ألامس أثر القيود على كاحل قدمي. أحسست بالعطش فتذكرت نبع الماء هناك بعين ((تاشاطت)) اتجهت نحو المنبع، ولما وصلت هناك وجدته فارغا، إلا من أسراب من الطيور تروي عطشها. شربت من ماء المنبع شرب الهيم .ثم واصلت طريقي نحو منزلي بتاودانوست في جد ونشاط. مشروب الكونياك، مشروب السعادة الممتاز. لقد منحنى طاقة وهدوءا. تذكرت فجأة هدية القائد الگلاوي. فنبض خافقي نبضا سريعا خوفا على ضياعها. تحسست جيب سترتي فتنفست الصعداء. ما تزال الهدية هناك. أردت أن أفتحها لأرى ما تحويه. لكنني عدلت عن الأمر، خوفا من أن يراني أحدهم. فكما للجدران آذان. للأشجار أيضا عيون وآذان. تذكرت جو السهرة بفندق إيشان. وجه البنت المليحة السبليونية مولاة الخال. وضحكة العرص حمادي بوبتازارين. ومواويل الرومية الحزينة. وكؤوس الراح الدافئة. مشهد اعتقالنا المذل وسط المحرك بدمنات. والليلة المشؤومة بسجن القصبة. والنهاية السعيدة أمام محكمة القائد الگلاوي. وعندما اقتربت من منزلي بتاودانوست، رآني جارنا مولاي مسعود، وهو رجل مربوع القد، دائم الابتسامة، كثير الضحك، وسريع البديهة.لم يرزقه الله بأولاد. أقبل نحوي مسرعا وقال لي بنبرة حادة:
- أين كنت يا وحيد والديك كل هذه المدة؟. لقد بحث عنك والدك في كل مكان. ولما يأس من العثور عليك، ذهب إلى دوار أيت معياض، وعلم من صديقه هناك بخبر اعتقالك . لقد سقطت والدتك مريضة طريحة الفراش.
حدقت في وجهه مصدوما، خائفا على صحة والدتي. أراد جارنا أن ينصرف، فاستحلفته بالله أن يبقى معي حتى أرى والدي. فقبل على مضض، وحكيت له بعضا من تفاصيل اعتقالي أنا والمعياضي، والدموع تملأ مقلتاي. قلت له:
- لقد نشب نزاع بيننا وبعض الشباب السرغينيون. فجاءت دورية من عسس القائد الگلاوي، وألقت علينا القبض. وبعد المحاكمة أطلق القائد سراحنا جميعا. رافقني الجار الطيب مولاي مسعود نحو منزلنا. ففوجئت بخروج بعض النسوة من المنزل. نادى جارنا على والدي:
- اقبل بسرعة يا أوبنعازي؟
فخرج والدي إليه على الفور. وما أن وقعت عيناه علي حتى صرخ في وجهي قائلا:
- سخطي عليك قائم حتى يوم القيامة.
مددت يدي لأقبل رأسه. لكنه أشاح برأسه بنفور مرددا :
-ابتعد عني يا مسخوط الوالدين.
رجوته بأن يصغي إلى حجتي. فرفض رفضا قاطعا. فخاطبه جارنا مولاي مسعود بهدوء قائلا:
- يا اوبنعازي كل ما في الأمر أن ابنك وصديقه المعياضي ، وقع لهم شنآن مع بعض الشباب السرغينيين. وقد اعتقلهم عسس القائد وأطلق سراحهم هذا الصباح. وهذا يحدث كثيرا بين الشباب. أحمد الله أن ولدك عاد إليك سالما.
أجابه والدي. متذمرا:
- بمجرد أن أعفي من أعمال السخرة ((فغن إيضارنس سگوشواري)) وأراد أن يترجل رجولة ما زالت بعيدة عنه.
عقب عليه الجار مولاي مسعود قائلا:
- إنه ولدك الوحيد يا ابوبنعازي.
صمت والدي لبرهة. ثم أشار لي بسبابته لأدخل إلى المنزل متوعدا إياي:
- حسابي معك لم ينتهي بعد.
مددت يدي إلى رأسه فقبلتها. فأثنى علي الجار الطيب قائلا:
- الله يرضي عليك يا ولدي. كن بارا بوالديك ولن تخيب.
ودعنا الجار الطيب، وذهب إلى حال سبيله. ولجت إلى المنزل، فرأيت والدتي مسجاة على ((تليق من الحلفاء)). تحيط بها مجموعة من النسوة في مشهد حزين. جعلني أجهش بالبكاء. أسرعت نحوها وقبلت يدها، فابتسمت ابتسامة شاحبة، دون أن تنطق بكلمة. ناولتها خالتي سعدية القادمة من دوار ايزاتيمن، مشروبا من الأعشاب الطبية المحلية. سألت خالتي سعدية عن حالة أمي فقالت لي:
- بالأمس كنا قلقين على حالتها الصحية. لكنها اليوم والحمد لله بدأت حالتها في التحسن.
صعدت إلى غرفتي واستلقيت على الحصير أتأمل في مقالب الحياة، ومشاكلها، ومفاجآتها، وملذاتها... سمعت صوت خالتي وهي تناديني. ذهبت إليها مسرعا، ناولتني قطعة من خبز الشعير مع قليل من زيت الزيتون وبعض حبات من التين المجفف. تناولت هذه الوجبة اللذيذة.ثم أخرجت من جيب سترتي هدية القائد الگلاوي فتحتها وأفرغت محتواها على الحصير. فإذا بها خمسة عشرة قطعة ذهبية نابوليونية من فئة 100 فرنك فرنسي. تقيلة بالوزن، يتوسمها رسم الفروج. وعشرة قطع من اللويز. وأربعة خواتم ذهبية مرصعة بالعقيق الأخضر. وقطع صغيرة من الزمرد واللؤؤ واللبان. وقطع نقدية عزيزية وحسنية. أحسست بفرح لا يتصور، وشرعت أدعو الله بان يحفظ القائد الكلاوي ويديم حكمه. ناديت على والدي بصوت عال، طالبا منه القدوم. لكنه صاح علي بغضب:
- تعال أنت يا ((إمجلي)) لنذهب إلى الحقل. نزلت من غرفة تامصريت مهرولا وهمست في أذنه مبشرا:
- ياوالدي العزيز لقد ساق الله إلينا رزقا وخيرا عظيما.
وأخذت أسرد عليه تفاصيل حصولي على الهدية من يد القائد الگلاوي بمحكمة القصبة بدمنات . وكيف أن القائد أعجب بقراءتي لحزب من القرآن الكريم. قال لي والدي:
هاتينها ؟
أزحت قطعة القماش عن الهدية. فامتقع وجه والدي. وجف حلقه، ومد يديه مرتعشا. يتحسس قطع الذهب واللويز، والخواتم الذهبية، والجواهر والنقود الفضية. وسألني بعصبية:
- قل لي بصراحة كيف عثرت على هذه الثروة؟ فأقسمت بالله أن القائد الكلاوي هو من سلمني الهدية. ورجوته أن يستقصي عن الأمر عند القائد نفسه. جمعت الهدية كاملة في قطعة القماش. وسلمتها له قائلا:
-هذه الهدية هي ملك لك. بعها واشتري متجر ومنزل بدمنات. اذهب عند تجار الذهب اليهود بالملاح. وإياك أن تذهب عند التجار المسلمين. لانهم سيعلمون بنا عند عصابة السيابة. وضع أبي محتوى الهدية في زبدية، وغطاها بالقماش. ثم وقف جامدا في مكانه. صامتا غير مصدق ان ابنه الوحيد، الذي غاب عنه لمدة يومين. سياتي إليه بهدية ذات قيمة من القائد الگلاوي. دخل فورا الى خم الدجاج. وقبض على فروج سمين وذبحه وأمر خالتي سعدية بأن تهيئ منه طاجينا شهيا. عدت إلى غرفتي ونمت نوما عميقا. لم يوقظني منه سوى صوت المؤذن وهو يرفع الأذان لصلاة العصر بمسجد القرية. غسلت وجهي ثم لبست جلبابي الصوفي. اقتربت من والدتي فنظرت إلي بوجه شاحب، وعينان مفعمتان بالحزن والتعب. قبلت يدها داعيا لها بالشفاء. كان والدي قد غادر المنزل نحو أحد الحقول القريبة، ليجمع بعض التبن والحشائش لإطعام الماشية. لحقت عليه بالحقل وشمرت على ساعدي. نظر إلي وقال محذرا:
- إياك ثم إياك ان يكون المال الذي اعطيتني إياه متحصل من سرقة.
وقفت موجها وجهي جهة القبلة. وأقسمت أمامه مرة أخرى بأن المال هو هدية من القائد الگلاوي. فابتسم أخيرا ولاح احمرار على وجهه. قلت له:
- اعطي الأرض لخماس او رباع، وتفرغ للتجارة فإن فيها الربح الوفير.
- إنها فكرة جيدة يا بني، سأتدبر أمرها ان شاء الله.
قال وهو يجمع أكوام التبن، وحزم الحشائش، ليضعها على ظهر الدابة. قفلنا عائدين فرحين. فأطلقت العنان لخيالي. فتراءى لي والدي وهو في متجره بدمنات يرص البضائع ويبيعها للزبناء. مثل أي تاجر كبير. ثم يشتري منزلا كبيرا مثل منزل اليهودي ليفي. ونرحل جميعنا من الدوار بتاودانوست نحو مدينة دمنات. ويذهب هو والوالدة للحج. وصلنا الى المنزل وأطعمنا الماشية. بعد ذلك ولجنا الى المنزل. كانت جمهرة النسوة اللائي جئن للإطمئنان على صحة والدتي قد غادرن المنزل. وبقيت خالتي سعدية إلى جانب والدتي المريضة. وكان الغسق وقتها قد بدا في الهبوط. أوقد والدي الشموع بأرجاء المنزل. ثم جلسنا نتكلم عن أحوال الدنيا والزراعة والاستعمار. حتى قدمت خالتي ووضعت أمامنا طاجين الفروج. وقدمت لوالدتي شربة الدجاج بالزنجبيل. تناولناه بنهم، حتى مسحنا الطاجين مسحا جميلا. التفت نحو خالتي وسألتها مرة أخرى عن حالة الوالدة فأجابتني مبتسمة:
- ستتحسن حالتها إن شاء الله في الأيام القادمة.
ــــــــــــــــــ
دمنات : من يوميات "عام البون بويهوكن وأعمال السخرة "الجزء 2 الحلقة 3 السجن والمحاكمة
بقلم : ذ: عصام صولجاني
ظلت عيوني شاخصة في ظلام الليل. لم أجد النوم إليهما سبيلا. بعد أن سيطرت علي أفكار وهواجس درامية. ودخلت في سجالات داخلية. وتساءلت في نفسي، ماذا لو أراد القائد الگلاوي أن يستعيد هديته الثمينة؟ لربما أهداها له أحد الوجهاء القبليين. فسلمها لي من دون أن يطلع على محتواها. وإذا قام أبي بشراء متجر ومنزل بدمنات . ألن يثير ذلك انتباه عصابة ((السيابة)) ؟ فيأتون ليلا لمهاجمتنا بحثا عن الذهب. كما فعل البياز وأعوانه مع أحد الدمناتيين البسطاء. لما علموا من أحد الوشاة، بوجود قطع من الذهب في حوزته. فقاموا بالصعود إلى منزله بواسطة الحبال (( السلبة )) فسرقوا ماله غيلة وغصبا. وانفجر قلب المسكين حسرة ومات. أسئلة وكوابيس ترتعد لها فرائصي. بقيت تطحن في رحى دماغي دون توقف. حتى رفع الأذان لصلاة الفجر. نهضت من فراشي متعبا. أترنح كالسكران. أوقدت شمعة، وتناولت دلوا مملوءا بالماء. ثم توضأت وصليت. كان أبي قد ذهب للصلاة بمسجد القرية كعادته كل يوم. جلست على الكاطري أنتظر عودته. في هذه اللحظة، قامت خالتي سعدية نحو الباحة الخارجية للمنزل، وأوقدت النار بالتنور. سألتها عن حالة والدتي، فطمأنتني بتحسن حالتها. فحمدت الله في قرارة نفسي. عاد أبي من مسجد القرية، وهو يسبح لله في صمت. وضع سبحته بجانبي على الكاطري. ثم ذهب إلى الحظيرة، ليطمئن على البهائم. وشيئا فشيئا بدأ غسق الفجر ينجلي. ليفسح المجال لضوء النهار. مع أصوات الحيوانات، وتغاريد الطيور، وحركات الفلاحين وهي تملأ فضاء القرية. أقبلت خالتي سعدية حاملة قدر مليء بحريرة الشعير، المطعمة بالزعتر البلدي. مع صحن مفعم بالتين المجفف. وأثناء تناولنا لهذا الفطور الشهي. همست في أذن أبي قائلا:
- هات عشر قطع ذهبية نابليونية، لنعرضها على التاجر اليهودي ليفي بملاح دمنات .
فأومأ لي أبي برأسه موافقا. وقام إلى تخت المنزل، ففتح بابه. كانت بداخله بضع حبات من اليقطين، وأمرني بأن أحمل بقطينة كبيرة وأضعها على ظهر الدابة.وذهب للإتيان بقطع الذهب. سألته:-
-وما حاجتنا باليقطينة؟
فأجاب مبتسما:
- حتى إذا سألنا أحدهم بدمنات ، نجيبه بأننا جئنا لنبيع اليقطينة.
غادرنا منزلنا في جد ونشاط، نمشي بخطوات متسارعة. حتى وصلنا إلى الطريق الرئيسية المؤدية إلى حاضرة دمنات. وكانت في ذلك الصباح، مزدحمة بقوافل الفلاحين من سكان تاودانوست والقبائل المجاورة. كانوا يمتطون دوابهم، متجهين صوب دمنات، لقضاء أغراضهم وشراء مستلزمات بيوتهم. وعلى حين غرة، مر علينا ثلاثة فرسان فرنسيين فوق ظهور جيادهم. فشرع الفلاحون في تحيتهم:
- بونجور مسيو. بونجور مسيو.
وقام أحد الفلاحين بأداء التحية العسكرية لأحد الفرسان قائلا له:
- هذا تعظيم سلام لك، وتعظيم سلام لحصانك.
فأجابه العسكري بفرنسية سريعة، لم يفهم منها الناس شيئا. ثم ما لبث ان توقف جميع من في الطريق. عندما مرت سيارة المراقب العام الفرنسي، من نوع بوغاتي مكشوفة السقف. وكان يرتدي لباسا عسكريا أزرقا بأزرار ذهبية. تعرف أحد الفلاحين من دوار القنضرات على أبي. وأخذ يتبادل معه أطراف الحديث. فسمعت من ذلك الفلاح ما يفجع القلوب. حكى لأبي عن نفوق عدد كبير من أغنامه ودوابه. وعن فراغ بيته من المؤونة. قال هذا المسكين لوالدي:
- سأكون محظوظا إذا انتهى هذا العام وبقيت على قيد الحياة.
أما أنا فكان كل همي أن نصل إلى الملاح. لنبيع قطع الذهب للسيد ليفي. وأن أرى البنت اليهودية الجميلة حنا. ولما اقتربنا من باب إعرابن ، رأينا مشاهد حزينة، لأفراد من عائلات قادمة من ((أزغار)) .شبه عراة وحفاة الأقدام. تبدو عليهم أثار الجوع والمسغبة. يعترضون سبيل الفلاحين طلبا للمساعدة. أطفالهم يتأوهون ويصرخون. ونساؤهم يفترشن الأرض ويتوسدن الأسمال البالية بالساحة الخارجية لباب إعرابن . عبرنا بوابة باب إعرابن نحو داخل المدينة. لمحت من بعيد حانوت السيد لوازيس بائع الخمور. فسال لعابي على مشروب الكونياك والفينيكس. سمعت الفلاح الذي كان يحاور أبي ينبهنا بصوت خاطف:
- هان أسبايسي هان أسبايسي.
ولم يكد أبي ينتبه لتحذير هذا الفلاح، حتى وقف أمامنا عنصر من قوات السبايس. سأل والدي:
- ماذا يوجد بداخل (( الشواري ))؟
فقام والدي على الفور وفتح (( الشواري ))، فرأى السبايسي حبة اليقطين. وخاطبه والدي:
- الله يجيب للي يشريها من عندنا.
فرد عليه السبايسي بلطف:
- مولانا عوين.
دخلنا إلى حي الملاح اليهودي، عند مدخل مدينة دمنات. كان ذلك الصباح في ذروة نشاطه. عشرات من الزبناء، والتجار يملئون الممرات مثل خلية النحل. والتجار اليهود يشحنون البضائع فوق الدواب. وأصحاب الحرف من اليهود في حركة ونشاط. صانعو الأحذية منهمكون في عملهم. وأصوات ماكينات الخياطة لا تتوقف. سمعت خياطة يهودية تخاطب مساعدتها ساخرة:
- خفي يديك وديري خياطة أيت مديوال.
مطارق الحدادين تعجن الحديد عجنا. مصدرة أصواتا إيقاعية متناغمة. وبائعو خمر الماحيا يعرضون هذا المشروب في جرار وقوارير. طالبين من الزوار والعابرين أن يرشفوا ويتذوقوا ليتأكدوا من جودة المنتوج. فتذكرت صديقي المعياضي وخليلته الرومية بفندق إيشان. حوانيت الجزارين غاصة بالزبناء. متسوقون يتفرجون على صانع أحذية يهودي، أعمى وهو يعمل بسرعة وإتقان موزعا المسامير بدقة على حواف الأحذية مع طرقها بالمطرقة . وفي الركن الملاصق لكنيس اليهود، تتوزع حوانيت بائعي الكتان. حيث يوجد حانوت السيد ليفي بائع الأقمشة المشهور بالملاح. كان يجلس على كرسي فخم. مرتديا جلبابا من نوع مليفة إنجليزية. بقلنسوة حمراء على الرأس. ووجه ممتلئ، وعينان مشعتان. حييته فرد علي قائلا:
- مرحبا بكم يا أهل تودانوست الطيبين. أنا في خدمتكم.
قلت له:
- جئناك بيقطينة كبيرة وطازجة. ستجد بداخلها بعضا مما وجدته بالخنجر.
فهم السيد ليفي المقصود. وقام على الفور بإغلاق دكانه. وتقدم أمامنا مفسحا لنا الطريق. حتى إذا وصلنا أمام بيته وسط الملاح. قمت بإنزال اليقطينة من على ظهر الدابة. فيما قام أبي بربطها بصخرة. ولجنا إلى داخل منزل السيد ليفي. وجلسنا على أريكة جلدية. قال ليفي مرحبا بنا :
- هذا يوم عظيم.
ناوله أبي قطع الذهب النابوليونية العشرة. فسأل والدي:
- هل عندكم منها الكثير؟
أجابه والدي:
- هذا هو الموجود في الوقت الراهن.
ولما انتهى السيد ليفي من فحص القطع الذهبية العشرة وتأكد من جودتها قال:
سأعطيكم مقابلها 5000 فرنك.
فرد عليه والدي:
- جئناك بعشرة دبلونات وليس بخمسة بصلات.
هذه القطع تستحق أكثر من هذا المبلغ يا ليفي.
رد علينا ليفي:
- لا بأس سأضاعف المبلغ ليصبح 10000 فرنك.
دخلت علينا زوجته الجميلة، حاملة صينية نحاسية عليها كؤوس من الشاي، مع زبدية من العسل.
- تفضلوا ياالتاودانوستيين (( نتشاركوا معاكم )) الطعام.
قال لنا السيد ليفي مبتسما. مددت يدي لأتناول كأسا من الشاي فمنعني والدي. قالت لنا زوجة ليفي مرحبة:
- مرحبا وألف مرحبا بناس تاودانوست العزاز.
نظر أبي في وجه السيد ليفي وقال له بحزم:
- أعطيني 20000 فرنك والله يربحك.
- بزاف بزاف يا تاودانوستي.
رد علينا ليفي مقطبا جبهته.
- وشاحال للي ما بزاف يا ليفي؟
قلت له بهدوء. وقف والدي متأهبا للمغادرة وطلب من ليفي أن يعيد إليه القطع الذهبية قائلا:
- أعد لي قطعي الذهبية يا ليفي. لأن مكان بيعها هو بمراكش أو الدار البيضاء.
فقال له هذا الأخير:
- لا واه خذها لسويسرا. اقعد اقعد للأرض اتاودانوستي شحال قاسح .
دخل السيد ليفي إلى عمق بيته. وبعد لحظات عاد وفي يده مبلغ 20000 فرنك. سلمها لوالدي عدا ونقدا. فضرب أبي بكفه على كف ليفي قائلا:
- الله يربحك يا ليفي.
تناولت كأس الشاي بالعسل. فكان أذكى وألذ كأس شاي شربته في حياتي. وتساءلت لماذا يعشق المسلمون شرب الشاي بالسكر. في حين يفضل اليهود شربه بعسل النحل.وعندما هممنا بمغادرة منزل السيد ليفي. دخلت علينا ابنته الجميلة حنا، رفقة شابة يهودية من جيرانهم. فغمزتني حنا بعينها اليسرى، مبتسمة ابتسامة عريضة، ظهرت منها نواجدها البيضاء. ودعتنا زوجه ليفي بدعوات الخير والبركة منوهة بنا:
- هذا بيتكم تعالوا إليه في أي وقت تشاؤون. لأن مكانتكم في العين والقلب.
والسيد ليفي يوصي أبي بإلحاح:
- أنا في انتظار قطع الذهب الأخرى.
- -إن شاء الله.
رد عليه أبي بابتهاج. غادرنا منزل السيد ليفي متجهين صوب الدكاكين التجارية بزنقة الزيواني . هناك انتقى أبي كل ما لذ وطاب من السلع المطلوبة للمعيشة. من شاي وزبيب، وسكر وحلويات، وتمر ولحم. وبعض من الأغراض الأخرى كقطع الصابون وقراطيس الشمع، والحناء، وكحل العين والتوابل. حتى امتلأت كفتا (( الشواري )) عن آخرها. وقفلنا عائدين، لا تكاد الأرض تسع لفرحتنا. رفع أذان صلاة الظهر. عندما وصلنا مشارف وادي مهاصر. نزل أبي إلى ضفة الوادي، فتوضأ وصلى. واستأنفنا المسير. قال لي أبي ضاحكا:
- عليك أن تعلم بأن اليهود يعبدون الذهب. ويحترمون من عنده الذهب، حتى لو كان من أرذل الناس.
وأضاف ساخرا من دعوات زوجة ليفي:
- زوجة ليفي لم تكن تقصدنا في دعواتها. بل كانت تقصد معدن الذهب الذي يسكن روحها.
أما أنا فقد سيطرت على بالي، غمزه البنت الفاتنة حنا. وأضرمت النار في قلبي. وتركت فيه حفرة عميقة. وجعلتني لا أفكر في شيء سواها. وتساءلت في داخلي، ماذا تريد مني حنا بغمزتها؟ هل غمزتني طمعا في الذهب؟ هل تستدرجني إليها طمعا في أمر لا أعلمه.؟ وصلنا إلى منزلنا بالقرية. ساعدت أبي في نقل المشتريات إلى داخل المنزل. كانت والدتي جالسة على الكاطري. سألتني بصوت تتخلله حشرجة:
- هذه مشتريات كثيرة تبارك الله.
أجبتها قائلا:
- نعم يا أمي، كل هذه الأغراض اشتريناها من مدينة دمنات.
ساعدت خالتي سعدية في ترتيب الأغراض بداخل تخت المنزل.اما أبي فقد استلقى على حصير في (( أغدمي )) ليستريح. وأنا صعدت إلى غرفتي بتامصريت. استعرض مفاتن البنت الفاتنة حنا. حتى كدت أراها مثل طيف واقفة أمامي. ووجهها يلوح لي على درجات السلم. وعلى زبدية الفطور. على الأرض وعلى الشمس، وفي القمر. فقررت ما أن تشرق شمس الغد حتى اذهب لرؤيتها.
في الصباح الباكر دلفت إلى ثقب في جدار المنزل. كان والذي قد خبأ فيه هدية القائد. تناولت خاتما ذهبيا مرصعا بالياقوت الأخضر، ووضعته في يدي. لأعرضه على أحد الصاغة اليهود بالملاح. لاحظت أن والدتي قامت لتساعد خالتي سعدية في تهيئ وجبة الفطور. لقد استعادت عافيتها ولله الحمد. بعد تجهيز الفطور، تحلقنا حول المائدة. وتناولنا حريرة الشعير المطعمة بالزعتر. قبلت يد والدتي، ويد والدي، واستأذنتهما للذهاب في جولة بأيت معياض. فطلبت مني والدتي، ألا أتأخر عن حضور وجبة الغذاء. قصدت ضيعة السفرجل والبرقوق الواقعة عند مشارف عين تشاطت. ولما وصلتها ملأت السلة عن آخرها بهاتين الفاكهتين. ومثل الثعلب الجائع عبرت البساتين والحقول بسرعة. حتى وصلت إلى حي الملاح اليهودي. فتحلق حولي الكثير من اليهود يستفسرونني عن محتوى السلة. فأزحت أوراق الكروم عن السلة وقلت لهم:
- هذا سفرجل وبرقوق، جئت به إلى السيد ليفي. وصلت أمام بيت السيد ليفي. وكانت البنت الفاتنة حنا منهمكة في كنس عتبة منزلها وهي تدندن:
- هاكا ماما عطي لماما.
ترتدي تنورة قصيرة، وسروالا وصدرية مطرزتين بخيوط من الصقلي الذهبية. مع خلخال فضي في كاحل قدمها. ناديتها بصوت منخفض:
- حنا حنا.
التفتت إلي وما أن رأتني حتى أحمر وجهها. سألتني:
- ما الذي أتى بك هذا الصباح؟
ناولتها سلة السفرجل والبرقوق وقلت لها بلطف وأدب:
- هذه هدية من الضيعة. قطفتها لكم خصيصا هذا الصباح.
تناولت السلة من يدي ووضعتها على عتبة منزلها. ثم دخلت إلى غرفك المتلاشيات خارج منزلها. تعقبتها على الفور. همست في أذني:
- قل لي بصراحة، أما يزال عندكم الكثير من قطع الذهب؟
أجبتها مستغربا:
- الله اعلم يا حنا .
فردت علي:
-أبي جاهز لشراء كل ما عندكم من قطع ذهبية. وبأي ثمن تريدون. ورجاء لا تبيعوا الذهب لأحد غير والدي ليفي.
تعمدت حنا الاقتراب مني حتى حشرتني في زاوية ضيقة. لم أستطع مقاومة إغراءها واحتكاكها بجسدي. ووقعت معها في المحظور. لم أتمالك نفسي. فكانت لحظات سعادة لا تنسى. مرت بلمح البصر. وأنا ما زلت لم ألتقط أنفاسي، مدت حنا يدها إلى يدي ونزعت منها الخاتم الذهبي المرصع بالياقوت. ووضعته في يدها. وأنا صامت جامد في مكاني مثل الصنم. لاحظت حنا شدة تعلقي بها فأمرتني قائلة:
- في المرة القادمة سأمنحك كل ما تريده، بشرط أن تأتيني بقطع من الذهب والمجوهرات.
أجبتها منتشيا:
- الخاتم الذي نزعته من يدي هو خاتم غالي الثمن.
في هذه الأثناء، سمعت نداء أمها فهرعت مسرعة نحو منزلها. وبعد لحظات خرجت هي وأمها. قالت لي مدام ليفي مبتسمة:
- في المرة الجارية جيب معارك تيموما وتيفراخ.
- إن شاء الله يا مدام ليفي.
قلت وقلبي يتقطع حسرة على الخاتم الذهبي الذي سلبته مني حنا في لحظة نشوة عابرة. أدرت ظهري لهما مودعا . وغير بعيد عن منزل حنا. سمعت صوتا أنثويا يناديني:
- تعالى يا التاودانوستي.
فالتفت إلى مصدر الصوت. وإذا بي أمام بنت فارعة الطول جميلة الوجه. ترتدي تشاميرا أبيض شفافا وتلف عنقها بشال أحمر. سألتها:
- من أنت؟ وكيف عرفت اسمي؟.
فردت علي بجرأة محدقة في وجهي بعيون مثل الصقر:
- أنت صديق حنا ليفي. لقد سمعت كل ما دار بينكما من كلام.
ودون أن أنبس ببنت شفة. تركتها مسرعا مثل هارب من طوفان. فتعقبتني قائلة:
- مماذا تخاف يا تاودانوستي. أنا أيضا أعطيني الذهب وتكمو في حتى لتيبضين
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
دمنات : من يوميات عام البون بويهوكن وأعمال السخرة الجزء 2
الحلقة الرابعة ( 04)
بقلم : ذ: عصام صولجاني
مشيت بخطوات سريعة، حتى اقتربت من الممر التجاري بحي الملاح. حيث تصطف دكاكين الصناع والتجار اليهود. سمعت صوت إيقاع أقدام خلفي فالتفت وإذا بي أرى تلك البنت اليهودية الفضولية ماتزال تتعقبني. أشارت لي بيدها لأتوقف، وخوفا من حدوث سوء فهم وتفاهم أمام التجار والسكان اليهود توقفت. اقتربت مني مبتسمة، وقد نزعت عن عنقها شالها الأحمر ومسكته بيدها. وانفك الحزام الذي كانت تشد به فستانها ((تشاميرها)). واختلت تسريحة شعرها الكوباس. قالت لي بنبرة حادة :
- إسمي صولا، صولا موشي مزراحي. أبي هو صائغ الذهب المعروف بحي الملاح. ودكانه هناك عند محل الخياط شمعون أوحايون. عائلتنا مشهورة في المغرب بتجارة الذهب. يمكنك الإعتماد على أبي في أية معاملة مقبلة.
أدرت لها ظهري قائلا:
- شكرا لك يا سيدة صولا، لقد تشرفت بمعرفتك. سأسال عن حانوت والدك في المرة القادمة.
كانت عيون هذه الشابة اليهودية الفارعة تخفي الكثير من الألغاز والأسرار. مررت بين حوانيت الحرفيين والتجار اليهود، متجها نحو بوابة الملاح الشمالية، المحاذية للمعبد اليهودي. عبرتها نحو وسط ساحة المحرك. كان ضوء الشمس الساطع يغطي كل مساحة المحرك. وعدد كبير من القرويين يجلسون على الأرض بجوار دوابهم تحت أشعة هذه الشمس . وهناك أمام بائع الخمر السيد لوازيس. يقف عدد من الفرنسيين وهم يرتدون قمصانا مخططة بألوان العلم الفرنسي. وسراويل مشدودة بالأحزمة المتقاطعة على ظهورهم. وإلى جوارهم يقف بضعة جنود بلباسهم الرسمي وعتادهم يحتسون الجعة. اتجهت صوب حانوت لوازيس. وانا أعض على شفتي ندما على قطعة الياقوت الخضراء، الموجودة على الخاتم الذهبي، الذي سلبته مني الحسناء حنا ليفي. قد يكون سعره أكثر من 20,000 فرنك، التي سلمها لنا والدها ليفي مقابل القطع الذهبية العشرة. وصلت أمام دكان الخمر، وكان السيد لوازيس يرتدي بذلة أنيقة مع ربطة عنق، وقبعة إيطالية . يلتقط صناديق الخمر الخشبية من الأرض، وهو يقول بغضب لبعض الشباب الأشقياء عبارة ((ليزاغيول)) ردا على إزعاجهم له. ولج السيد لوازيس إلى داخل حانوته، تناول غليونا وأوقد فيه النار، ثم شرع يذخن بشراهة.كانت رائحة الذخان غريبة ومثيرة. سألني بأدب:
- اي مشروب تريد يا سيد؟
قلت له باحترام:
- من فضلك أريد زجاجة كونياك سعة نصف لتر. تناولت الزجاجة من يد المسيو لوازيس ووضعتها تحت جلبابي. وعيني تشتاق لرؤية البنت السبليونية مولاة الخال بفندق إيشان. وصلت أمام الفندق، فتفاجئت بالعرص حمادي بوتازارين، وهو يعرج برجله اليسرى مستعينا بعكاز خشبي. والإرهاق باد على وجهه. قلت له مواسيا:
- خيرا يا أحلى عرص ماالخطب؟
فأجابني متذمرا:
- أردت ان أفض نزاعا نشب بين شابين من قبيلة أولاد خلوف، فضربني أحدهم، وأصيبت رجلي إصابة بالغة.
- وماذا عن أخبار الغانية السبليونية مولات الخال يا أحلى عرص ؟
رد علي محذرا:
- كل بنات فندق إيشان يخضعن الآن للمراقبة الطبية الدورية. من طرف الدكتور سان مارتان، والراهبة الأخت بريجيت لولوش. عليك الإنتظار حتى ينتهي الفحص.
ناولني العرص حمادي كرسيا مريحا من نوع(( الشلية)) . فجلست القرفصاء، وشرعت في تناول جرعات متتالية من الكونياك . وأخذت أتبادل الحديث مع العرص حمادي، الذي بادر بالكلام قائلا :
-قبل أربعة أيام حلت بفندق إيشان، بنت آية في الحسن والجمال. مثل اللؤلؤة لم أرى في حياتي مثيلا لجمالها .
-وأين هي الآن ياحمادي؟
- ما أن علم ابن القائد الگلاوي بأمرها، حتى جاء وأخذها غصبا إلى منزله، الذي يقع خلف السور أمام بساتين بوشان.
- ومتى ستعود هذه البنت الفاتنة.؟
-كل من يدخل إلى منزل ابن القائد الگلاوي ذاك، لا يخرج منه أبدا.وقد قيل لي بأنه يقتل ضحاياه ويدفنهم هناك. وقد سمعت من أحد البرگاگة أنه أحيانا يترصد أطفال القرى الجبلية. عند باب العيد وعندما يعجب بأحدهم يقوم بخطفه وأخذه إلى منزله ذاك.
- وماذا في جعبتك عن أخبار دمنات؟
- هي أخبار لا تسر أحدا مثل أن وكيل أملاك الغائبين المدعو(( بومارث)) بات يسطو على أملاك الناس الحاضرين وأمام أعينهم. أما كبير السيابة هو وأعوانه، فقد استولوا على منزل إمام ومحفظ القرآن الكريم بمسجد آرحبي. وحتى البرانيين تقوت شوكتهم. وأصبحوا من ملاك الأراضي. يستولون على أملاك الأيتام والمحاجير لبعض العائلات الدمناتية.من بين أجود البساتين بمنطقة اگاداين. إنها التويزة بين حيوانات الغاب الضارية.وهناك فضائح عن أحد المتنفذين الذي خطف زوجة جميلة من زوجها وهرب بها إلى قرية تازارت.
وأمام فندق إيشان رأيت ازدحاما بمقهى. فاقترحت على العرص حمادي أن اذهب لأطلب له كأس قهوة. وكانت مقهى لصاحبها البزيدي عبارة عن دكان مفروش بحصير يجلس عليه الزبناء.منهم من يلعب الورق والضامة. ومنهم من يشرب القهوة و الكيف. وكان البزيدي رجلا طويل القامة عريض الجبين دائم الإبتسامة. طلبت منه أن يهيأ كأسا للعرص حمادي بوتازرين فنظر إلي مستغربا وقال :
-لقد شربها بسرعة وغادر بلمح البصر ((بحرا تيحگون يفغ)).
ثم تناول الزيزوة النحاسية، وأخذ يصب القهوة في كأس زجاجي ذو دائرة خارجية. قلت للعرص حمادي ممازحا:
- عدل مزاجك، والرجاء في الله.
فرد علي ضاحكا وهو يرشف من كأس القهوة :
- هذه قهوة للشرب. ولكن أين هي قهوة الجيب؟
قلت له:
-مرحبا يا أحلى عرص في الدنيا. خذ هذه الخمسة فرنكات.
تناولها بسرعة ووضعها في جيبه مبتسما وقال:
- الآن صارت الأمور في السليم.
كنت على وشك إتمام شرب زجاجة الكونياك. عندما خرج من فندق إيشان، الطبيب ذي الشارب الأبيض والنظارات السميكة مارتان، وفي يده حقيبة جلدية سوداء. تلته الراهبة الممرضة بريجيت بلباسها الديني. وتبعتهما ((العريفة)) التابعة لسلطة القائد الگلاوي المسماة الحقونية.امراة سوداء البشرة ذات شفاه كبيرة، وعيون عدوانية.ترتدي جلبابا مخزنيا، وتتكلم بصوت خشن. نادت على ثلاثة نساء وأمرتهن:
- تقدمن أمامي((ياوليات بابا ربي)) بسرعة، لنذهب إلى المستشفى.
امتطى الطبيب مارتان حصانه البني. وركبت الممرضة بريجيت حصانها البرتقالي. وانطلقا نحو المستشفى. وكان برفقة العريفة الحقونية والنساء المريضات، عنصر من حرس السبايس. وما ان تواروا عن الأنظار حتى دخلت إلى باحة فندق إيشان، فلحق بي العرص حمادي وهو يعرج برجله. نادى بصوت عال على السبليونية مولات الخال. فقدمت إليه حافية القدمين، بشعر غير مرتب ترتدي دفينة حمراء فهمس العرص حمادي في أذنها بكلمات ثم انصرف . قالت لي هذه الغانية:
- لم يسبق لي أن رأيتك هنا.
أجبتها مستغربا:
- أنسيت تلك الليلة الحمراء التي قضيناها رفقة الرومية وصديقها المعياضي بغرفة سلطانة.
ضحكت حتى ظهرت أسنانها وقالت :
-لقد اشتممت فيك رائحة الكونياك. ولكي يكون مزاجنا واحدا . اذهب واشتري لي زجاجة من الخمر الأحمر ((الروج)) .
خرجت من غرفة السبليونية، وكلفت العرص حمادي بالأمر. وما هي الا لحظات، حتى طرقت علينا باب الغرفة إحدى الغانيات. تناولت منها السبليونية مولاة الخال زجاجة الخمر الأحمر سحبت قطعة الفلين من فم الزجاجة، وأخذت تشرب بنفس طويل، حتى أتت على نصف الزجاجة وقالت:
- الآن لنفتح كتاب الحب. ولنبدأ في قراءة صفحاته. وكانت لحظات لا تنسى. وعندما هممت بالمغادرة، أسرت لي السبليونية مولاة الخال قائلة :
-اذا لم تتحسن الظروف المعيشية بدمنات، فسأعود إلى طنجة العالية. لأشتغل بالمراقص والخمارات. كما كنت أفعل قبل أن أجيئ إلى دمنات. لأن أغلب الجنود والضباط الذين يأتون إلى فندق إيشان، أيام السبت والآحاد، ويغدقون علي بالمال والهدايا، ذهبوا الى الجبهات. ولم يبقى سوى أبناء البلد من البدويين الذين علاوة على فقرهم يأتون إلي في حالة مزرية. . كانت السبليونية مولاة الخال امرأة جميلة رشيقة القوام. كأنها غصن البان. بأنف صغير، وعينان خمريتان، وشعر حريري ينسدل كالموج فوق كتفيها. تتكلم اللغتين الإسبانية والفرنسية. وقد رأيت بغرفتها أعدادا كثيرة من جرائد الحماية الفرنسية. مثل لافيجي ماروكان.وبعضا من صور لمشاهير مثل المغنية الفرنسية إديت بياف. والسوبر ستار الألمانية ماگدة شنايدر. والملاكم الأسطوري مارسيل سيردان معلقة على جدران غرفتها . ودعت السبليونية مولاة الخال . وعند بوابة الفندق سلمت العرص حمادي بوتازارين بقشيشا إضافيا. وقلت له ضاحكا :
- عقل على الخير أحمادي.
فرد علي :
- مرحبا بك في اي وقت .
خرجت مزهوا فرحانا بهذا الصباح الجميل. وعندما اردت عبور بوابة باب إعرابن. التقيت مع هرقل تاودانوست المدعو أزگر.بقامته المتعملقة .كان قد خرج للتو من حي الملاح. مرتديا بذلة عسكرية كاملة. مع جزمة جلدية. وقد بدا مثل جنرال الرايخ التالث غورينغ. لا تنقصه سوي النياشين. بشارب طويل مثل جناحي غراب. وعينان كبيرتان مظلمتان وفك دائري عريض، تزدحم فيه أضراس وأسنان، مثل طواحين الهواء. يحمل في يده حاملة الأغراض ((تازگاوت)) . مليئة عن آخرها بعدد كبير من زجاجات الخمر الأحمر . مع زجاجات من ماء الحياة. سلمت عليه فأطلق في وجهي ضحكة مجلجلة. ساخرا مني ومن صديقي المعياضي، عندما لم نستطع أن ننجو بجلدنا من عساكر الگلاوي. كما فعل هو عندما اندفع مثل كثلة صخرية. واختفى بين الأشجار. مشينا سويا وسلكنا طريقا مختصرا وسط البساتين والحقول في اتجاه تاودانوست. تناول أزكر زجاجة خمر وشربها دفعة واحدة. ورمى بالزجاجة الفارغة بعيدا وسط الحقول . وخاطبني بطريقة أبوية :
- عليك أن تعلم يا أوبنعازي أنه لا فائدة ترجى من عالم الليل والخمر. لذلك عليك أن تتجنب هذه الطريق قبل فوات الأوان.
قلت له :
- معك حق يا أزگر. ولكن عنفوان وطيش الشباب يدفعان للمغامرة. هل تزور فندق إيشان؟
سخر مني أزگر مردفا :
- أنا لا أدخل إلى فندق إيشان. إذا رغبت في النساء أذهب نحو القرى البعيدة. وأخطف بنتا وأحملها معي كما يحمل النمر فريسته.
قلت له مستنكرا :
-ولكن هذا إجرام عقوبته كبيرة في الدنيا والآخرة.
لم يعقب على كلامي بل واصل سرد بطولاته وعنترياته التي لا نهاية لها. وعندما كنا على مشارف بيرو عراب. تناول زجاجة أخرى من الخمر الأحمر وشربها دفعة واحدة. وقال لي مودعا :
-سأذهب إلى مغارة ((إيفري ن القفار)) لإكمال الشرب مع الأصدقاء.
وصلت إلى منزلنا، فوجدت الوالدة والوالد وخالتي سعدية، يتناولون الغذاء. سألني والدي:
-لقد تأخرت كثيرا يا بني.
أجبت بهدوء:
- كنت في حديث طويل مع شباب من تاودانوست. طلبت مني أمي أن اغسل يداي. وأتفضل للأكل قائلة:
- هذا طاجين باللحم والزبيب طبخته بيدي.
تناولت قرصا من خبز الشعير. وشرعت في تناول الإدام مع اللحم والزبيب،حتى شبعت. وعندما قمت لأصعد إلى غرفتي بتامصريت. أمرني والدي بالجلوس لمناقشة أمر هام. قلت له:
- خيرا إن شاء الله.
قال لي بحزم :
- سنخطب لك بنتا من العائلة لتكون زوجة لك.
قلت له :
- ما يزال الوقت مبكرا يا أبي.
قالت لي الوالدة:
- يجب أن تتزوج يا ولدي، ليصبح لديك أولاد يكبرون أمامنا.
-سأنظر في الأمر.
قلت ثم صعدت إلى غرفتي. أفكر في أمر الزواج. تذكرت البنت حنا ليفي. و السبليونية مولات الخال . وتساءلت مع نفسي: كيف لي أن أترك عالم العزوبية حيث الحرية وأذهب نحو عالم الزواج حيث المسؤولية؟
قبل غروب الشمس هذا اليوم ذهبت عند والدي بالحقل لأستفسره عن أمر شراء المتجر بدمنات ودخلت معه في حوار على انفراد :
-ماذا عن المحل التجاري بدمنات يا أبي؟
رد مجيبا:
-لقد كلفت أحد السماسرة ليجد لي محلا تجاريا مناسبا.
- هل بزنقة الزيواني.؟
- لا! لا! لم يعد هناك محل شاغر بزنقة الزيواني. سأشتري محلا من المحلات الجديدة عند منحدر سيدي حداني.
- ولكن ذلك مكان مهجور يا أبي. لن يأتي إليه الزبناء. - لتكن البداية من ذلك الدكان يا ولدي...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
دمنات : من يوميات عام البون بويهوكن وأعمال السخرة الجزء 2
الحلقة الرابعة ( 05)
بقلم : ذ: عصام صولجاني
عندما بدا الغسق في الهبوط. قفلت عائدا من الحقل صحبة أبي. تغمرني بحار السعادة ،وأنا أفكر في مستقبل مشرق. كان أبي قد دخل في لحظة استغراق. قلت في نفسي:- أخيرا سيصبح عندنا دكان للتجارة بمدينة دمنات. ولن يطول بنا الزمن حتى نشتري منزلا هناك. سأكون حينذاك قريبا من حي الملاح. حيث البنت الفاتنة حنا، وأخواتها من البنات اليهوديات الجميلات. وسأجاور الفراشات المتفتحة بفندق إيشان. وسأمر وقتما أشاء على حانوت السيد لوازيس. حيث قوارير الخمر ذات الأحجام والأشكال والألوان المختلفة،التي يسيل لها لعابي. أحلام كانت مغلفة بالمستحيل ،فأصبحت حقيقة بفضل من الله. بعد أن كادت حبال اليأس تقطع أنفاسي. وصلنا إلى المنزل. تناول أبي قرطاسا من الشمع وأوقد شمعة. ثم ذهب ليطمئن على البهائم بالحظيرة. وأنا ولجت إلى باحة المنزل وجدت أمي جالسة مسندة ظهرها على ركيزة خشبية. قبلت يدها وقلت لها مبشرا : - سيترك والدي أعمال الحقل لأحد الرباعين. وسيشتري متجرا ومنزلا بمدينة دمنات.
فردت علي بابتسامة مكسورة :
-يا ولدي أنا لا أستطيع مغادرة أرض أجدادي بتاودانوست، حيث أهلي وأحبابي، وأذهب لأعيش غريبة في دمنات.
فشكرتها على جهودها وصبرها في سبيل توفير الراحه لنا جميعا. كانت خالتي سعدية تنصت إلينا وهي منهمكة في تحضير وجبه العشاء. صعدت إلى غرفتي تامصريت، وأوقدت شمعة ثم استلقيت على تليق من الحلفاء. أحدق في سقف الغرفة. مستحضرا واقع القحط والبؤس، الذي أضاف إليه الإستعمار وأعوانه، ألوانا من القهر والتسلط على البلاد والعباد. قمت نحو كوة في حائط الغرفة، وتناولت نسخة مخطوطة من القرآن الكريم كانت مدسوسة بها. قال لي أبي ذات مرة، بأنها أعظم هدية ورثها عن أجداده. وشرعت في تلاوة آيات بينات من القرآن الكريم بصوت مرتفع. ولم أنتبه حتى وقف علي أبي وقال:
- تبارك الله عليك أيها الفقيه.
كان قدر الطاجين الموضوع فوق النار، يفوح برائحة طبيخ ذكية.وقبل أن أنتهي من قراءة القرآن، سمعت نداء والدتي وهي تأمرني بالنزول لتناول العشاء. قبلت نسخة القرآن، وأعدتها إلى مكانها بالحائط. ثم نزلت الأدراج مسرعا. كان أبي ووالدتي وخالتي سعدية، يتحلقون حول مائدة الطعام، بوجوه مبتسمة.أضفى عليها ضوء الشموع إشراقا وبهاء. قلت لوالدي مازحا :
-الطاجين ماثل أمامنا ، ولكن أين هي لالة خبزة بنت الطاجين؟
ابتسمت خالتي سعدية، وقامت بفتح حافظة النعم الطبيقة. وتناولت دزينة من أقراص خبز الشعير. ووضعتها بجانب الطاجين منوهة :
- هذه بنات الطاجين يا ابن أختي.
وكانت رائحة حنطة الشعير المخبوزة في التنور، تثير في النفس عشق الأرض وحب الحياة .أزاح والدي الغطاء عن الطاجين، فكانت المفاجئة التي لم أكن أنتظرها. أرنب بري سمين، استحوذ على كل مساحة الطاجين. مع بصل محمر، وزبيب وزنجبيل. ازدردنا بنهم محتويات هذا الطاجين . وفي لحظة أردت أن اتكلم مع والدي ولقمة الطعام تملأ فمي . فقال لي والدي ضاحكا:
- الحديث مع الأكل لا يستقيمان يا بني.
قلت له بعد أن استطعمت اللقمة وبلعتها :
- أردت فقط أن أسألك عن مصدر هذا الصيد الثمين. فأجاب:
-لقد نصبت له كمينا بالحقل. وبقيت أنتظر وقوعه لمدة أسبوع، حتى جاء أجله اليوم.
شكرت والدتي وخالتي سعدية على حسن الطبيخ. وعدت إلى غرفتي ،شاكرا الله على نعمه الواسعة. التي يسبغها على عباده على حين غرة. كما حدث معي يوم أن انغرست سكة المحراث الحديدية. بأحد الحقول البورية المهملة. ليظهر الخنجر الفضي الكبير مع أول خط سطره المحراث على الأرض. ليتبين لي عندما عرضت الخنجر للبيع على السيد ليفي بالملاح. أنه محشو بالقطع الذهبية التي تعود إلى عصر الدولة السعدية. او عندما وقعت في الأسر مع صديقي المعياضي. وكنت أنتظر قدوم الأسوء. حتى إذا جاء يوم المحاكمة. كان مفتاح الخير والنجاة، حزبا من القرآن الكريم. قرأته على مسامع القائد الگلاوي ليكافئني هذا الأخير بهدية ثمينة استلمتها من يده. هكذا يهيئ الله أسباب الرزق لعباده وهم لا يعلمون. بقيت استحضر هذه المشاهد بهمة واعتزاز ، حتى استسلمت لسلطان النوم.
في الصباح الباكر استيقظت على مائدة فطور عليها إناء قصرية، مملوءة عن آخرها بأكلة بركوكس مع سمن بلدي. وكؤوس من الفخار مليئة بالحليب البقري الساخن. تناولت هذا الفطور الشهي مع العائلة. ثم بعد ذلك امتطيت مع أبي متن بغلة، وتوجهنا صوب مدينة دمنات َ. في الطريق أردت الإستئناس بالحديث عن أمور التجارة. لكن أبي تجاهل كلامي وأخذ يحدثني عن فوائد الزواج المبكر، وضرورة تكوين الأسرة. ولم نشعر حتى وجدنا أنفسنا وقد تخطينا باب إعرابن. ذهبنا صوب أحد الإسطبلات وسط المدينة وأودعنا فيه الدابة. ثم صعدنا كثلا صخرية توجد بأعلى المحرك. حتى وصلنا إلى مشارف زنقة الزيواني. وكانت السماء صافية والشمس حارة. وأصوات أغاني أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وأسمهان. المنبعثة من أجهزة الفولوغراف والراديو. تضفي على هذا الجو الخريفي طابعا جميلا. وبعد مسافة قصيرة توقف أبي أمام دار لها باب كبير مزدوج مثل أبواب الأضرحة والمساجد. توجد أمامها كراسي خشبية مستطيلة وأخرى فخمة من نوع الشلية. فقال لي والدي :
- ابقى هنا بدار الناظر حتى أعود. سأذهب للبحث عن السمسار.
كانت زنقة الزيواني غاصة بالزبناء والتجار. وأمام المحال التجارية المثخنة بالسلع. عشرات من أكياس حلوى الفنيد، وكعك القريشلات، والفواكه اليابسة والمكسرات. والمئات من أواني الفخار، والنحاس، والحديد. وركام من حسكات الشموع، والمشغولات اليدوية من الخشب و الدوم والقصب والجالوق . وأمام محل ملاصق بدار الناظر. وقفت سيارة قديمة من نوع أربعة خيول. نزل منها أحد تجار الجملة اليهود. وأمر أحد تجار النعال والبلاغي قائلا له :
-عبي عبي كولشي للي عندك من البلاغي اسدي محمد.
وأخذ الصانع مع مساعديه يفرغون محتويات الحانوت عن آخرها في أكياس من الخيش. مر بجانبهم رجلا قصير القامة، أسمر اللون، يضع على رأسه قبعة الدراويش. وأخذ يردد لازمة بصوت
جميل :
-من يشتري جلابية وسلهام من الحرير.
فسأله أحد المارة :
- كم السعر يا سيدي الونيس الدلال ؟
ليرد عليه هذا الأخير :
- على باب الله يا مولاي الغزال.
عناصر من عسكر الگوم يحملون في أيديهم عصيا غليظة. يقتادون رجلا قويا نحو القصبة. وآخرون في جيئة وذهاب يراقبون التجار والزبناء. روائح التبزيرة الدمناتية، والقهوة والبهارات. ورائحة قلي زلابيات السفنج تثير الشهية. عاد أبي خاوي الوفاض. فقال لي بامتعاظ:
- لم يأتي السمسار في الموعد.
طلبت منه أن نذهب إلى دكان السفناج. فقصدنا محله الواقع بمقدمة سوق السماط. وكان السفناج رجلا وسيما، وطويل القامة . يرتدي لباسا فضفاضا مع حزام حريري ورزة صفراء على الرأس. سلم عليه والدي وطلب منه دزينة من السفنج . تناول بهدوء خطافا حديديا، وشرع يلتقط به قطع السفنج ويضعها في حبل من الدوم. فجأة حل رجل في هيئة غريبة.أشعث الشعرط تغطي وجهه لحية كثيفة. حافي القدمين يرتدي دربالة مقطعة. وأخذ يسدد ضربات قوية لبطنه.بحجر دائري أملس (( تايموم)). وهو يهجو بطنه ويلعن سنسفيلها بسبب شراهتها. و مع كل ضربة يعدد النعم التي تشتهيها بطنه قائلا :
- شافت كسكسو ماحملات من يمسو. شافت الدلاح قالت فوقو نتلاح. شافت البرقوق قالت منو نذوق...
ناوله السفناج قطعة من السفنج قائلا :
- خذ يا ضراب كرشو؟
قال لي والدي مشيرا إلى هذا الرجل :
- هذا هو مصير كل من يتبع شهوة البطن .
عدنا إلى دار الناظر. تناولنا قطع السفنج المقرمشة مع الشاي المحلى.فكانت وجبة شهية لا تنسى. وبعد ساعة من الانتظار وعندما نفذ صبر والدي وأراد المغادرة،إذا بالسمسار يقبل علينا. وكان شخصا قصير القامة ،أصلع الرأس، وأمرد الوجه، يرتدي جلابية صوفية، ويتمنطق بحقيبة جلدية من نوع أقراب . سلم على والدي، وطلب منه الذهاب معه بسرعة لرؤية الحوانيت. نزلنا من منحدر بجانب ضريح سيدي حداني. حتى وصلنا إلى مساحة أرضية كلها حفر وحجارة. تقدم السمسار نحو إحدى الحوانيت وفتح بابها. كانت أرضيتها غير مستوية، وحيطانها مشققة، وأخشاب سقفها غير متماسكة. فرفض الوالد هذا العرض. فقال له السمسار مستغربا :
-ماهو المبلغ الذي تستطيع دفعه؟
فعقب عليه أبي ساخرا :
- المحل الجيد يستحق المبلغ الجيد.
تقدم السمسار بضع خطوات نحو محل آخر. وفتح بابه الخشبي المزدوج. وإذا بنا أمام دكان فسيح، بحيطان جبسية ناصعة البياض. وسقف خشبي مصنوع بالورقة والگايزة. وأرضية من حجارة البيدق. وعلى الفور بدأ أبي يفاوض السمسار حول سعر الشراء :
-كم مبلغا تطلب في هذا الدكان؟
أجاب السمسار بحزم:
- عشرون ألف 20000 فرنك
-هذا سعر غالي جدا.
رد عليه والدي بلامبالاة.
-وبعد أخذ ورد اقترح السمسار على أبي مبلغ ستة عشرة ألف 16000 فرنك قائلا بحسم :
-هذه نهاية المناقصة.
همست في أذن أبي:
-أرجوك اغتنم هذه الفرصة. إنه دكان جيد.
جلس والدي على صخرة أمام المحل. وأخذ يفكر في الأمر. فقال له السمسار :
- سأنتظرك قليلا بدار الناظر.
بعد ساعة التفكير وافق أخيرا على مبلغ الشراء. ذهبنا توا لمقابلة السمسار بدار الناظر. وما ان رآنا حتى وقف متأهبا وسأل أبي:
- ماذا قلت ؟
اجابه بحسم:
-اشتريت.
وأشار السمسار بسبابته إلى أحد الرجال، كان جالسا على كرسي وقال لوالدي :
- إنه الحاج بولخير، من سكان آيت آرحبي الكرماء، صاحب الدكان.
و كان هذا الرجل يبدو عليه الوقار. وتعلو وجهه مسحة من الحزن والحياء. يرتدي جلبابا صوفيا. وينتعل بلغة سميكة. تقدم أبي نحو الرجل وسلم عليه. وبعد أن تبادلا كلمات المجاملة والترحيب. قال الرجل لوالدي:
- هذا محل جديد. لم يمر على إصلاحه سوى بضعة شهور. كنت قد أعددته لولدي البكر ليشتغل به. ولكنه انتقل الى رحمه الله.
أجابه والدي :
- لنذهب إذن عند العدول لتوثيق البيع.
وفي دكان للعدول يقع بزنقة السماط .سلم والدي مبلغ الشراء المتفق عليه.مع أجرة السمسار. والرسوم المستحقة إلى يد الموثق. وكان الموثق يجلس على كرسي وثير أمام مكتب مليئ بالأوراق وقوارير الصمغ والحبر. يرتدي جلبابا وسلهاما من السدا. له فم تبرز منه أسنان ذهبية. وأجفان ضيقة. تغطي وجهه لحية مشذبة. فبصم أبي والبائع الدمناتي بإبهامهما على كناش. بعد ذلك سلم العدل إلى ابي مفتاح الدكان مع وصل تقطيع قائلا :
-عد غدا صباحا لتستلم نسخة من الرسم العدلي.
تركنا محل العدول، وذهبنا في اتجاه ساحة باب إفشتالن.حيث يوجد عمال الموقف المياومين مع أدوات عملهم. استقدم والدي عاملين من هناك. وأمرهم بتنظيف الدكان. فشرعا على الفور في عملهما بجد ونشاط. رفع أذان صلاه الظهر، من مسجد حي آرحبي. فذهب والدي للصلاة بذلك المسجد. وبعد عودته كان العمال قد نظفوا المحل ونقلوا الأتربة خارجه. أعطاهم والدي أجرتهم. بعد ذلك قصدنا محلا يقع فوق الهضبة العليا المطلة على ساحه المحرك. حيث يوجد مطعم الشواي الحاج بني عامر. وكان عبارة عن دكان مفروش بالحصير. مع طاولة وسكاكين وسواطير. وفرن طيني مع رزم من الحطب. وكان الحاج الشواي رجلا طويل القامة، ضخم الجثة، قوي البنية، تعلو وجهه الابتسامة والرضى. وكانت رائحة اللحم المشوي تملأ الأجواء. طلب منه أبي لحم كتف ضأن. ولم نكن قد وضعنا راحتينا على الحصير. حتى جهز الحاج الشواي طلبنا. وأتى به على صحن من الفخار، مع قطعة من الكاغظ عليها مسحوق من الكمون والملح. وزبدية مليئة بسلطة حارة .وكان طبق اللحم المشوي يقطر شحما وإيداما. سأل والدي المعلم الشواي ساخرا :
-أتمنى ألا يكون هذا اللحم من بقرة هرمة.
فرد عليه المعلم الشواي بهدوء :
-تذوق اللحم وبعد ذلك قل ما تشاء.
وكان طعم لحم الشواء لذيذا. جعلنا نشكر المعلم الشواي بني عامر وندعو له بالصحة والبركة. طلبت من والدي ان يشتري طبقا من هذا الشواء للوالدة ولخالتي سعدية. فرد علي ضاحكا :
- يجب أن تعلم يابني، بأن ربات البيوت لا يستسغن أكل طبيخ السوق. سأشتري لهن بدلا عن اللحم المشوي، لحما طازجا من عند أمين الجزارين.
بعد هذه الوجبة الدسمة، ذهبنا في جولة داخل المدينة. وهكذا زرنا سويقة الخضار فوجدناها خاوية. إلا من بعض فواكه الموسم. وحيوانات ترعى وسط بقايا الخضر.ثم عرجنا نحو رحبة الزيت والسمن والزبدة. وكانت دكاكينها تحوي جرارا وقدورا تنضح بما فيها. وأرضيتها قد تشربت بهذه المواد الدسمة. ثم مررنا من أمام كتاب تحفيظ القرآن الكريم بمسجد آرحبي. وكان صوت الطلبة يملأ الفضاء بقراءات مختلفة.بعد ذلك طلبت من الوالد أن نذهب لرؤية المدرسة الفرنسية التي توجد خلف باب العيد. فقال :
- لنختصر الطريق نحو باب العيد من حي الفلاح. وهكذا توغلنا بين متاهات أزقة حي الفلاح. حتى لاح أمامنا رياض القائد الگلاوي. وفوجئنا بحشد غفير من الناس يقفون أمام ساحة القصبة. وإلى جانبهم عشرات من الفرسان بجلابيبهم البيضاء وخناجرهم الفضية اللامعة يمسكون بزمام خيولهم. ومجموعات من الفرق الموسيقية بلباس قبائل أهل الجبل. ومجموعة من الروايس يمسكون بأدواتهم الموسيقية. وعدد من الخدم والحشم في ذهاب وإياب بين رياض القائد ومحكمته بحي القصبة ينقلون أطباق الأكل الشهية. سأل والدي أحد البدويين عن الأمر فأجابه قائلا :
-إنه حفل عقيقة ابن سيدنا القائد الگلاوي.
دخلنا وسط جمهور المحتفلين. وما هي الا لحظات، حتى اندفع الحشد البشري إلى الوراء،فعدنا القهقرى خائفين. رفعت نظري فرأيت فرقة من عسكر الگوم والمخازنية، تفسح المجال لمرور موكب القائد الگلاوي، مع ضيوفه من الضباط الفرنسيين، وشيوخ وأعيان القبائل. انطلقت الفرق الموسيقية في العزف والغناء وتلاوة الأناشيد. وامتطى الفرسان ظهور خيولهم. وانطلقوا في دفعة واحدة، من ساحة القصبة حتى ساحة باب إفشتالن ،مطلقين البارود من بنادقهم. وكان نقع الغبار بين حوافر الخيول، يتصاعد من الأرض ليشكل مع ذخان البارود في السماء شكلا أفعوانيا. مع عبارات من الشكر والإمتنان لجناب القائد على ألسنة الجمهور تنبعث من هنا وهناك. وزغاريد متتالية لبعض النسوة التي استقدمتهن العريفة.وغير بعيد من زحمة الحفل أمام زنقة السماط. تحلق مجموعة من الشباب حول عمود خشبي طويل ،مثبت على الأرض وضعت في قمته هدايا، عبارة عن قوالب من السكر، وحلويات وأوراق نقدية. وكان العمود ملطخ كليا بمعجون الصابون. ومن استطاع من الناس الوصول إلى قمة العمود يظفر بالهدايا. وكم كان مضحكا رؤية بعض الشباب الأقوياء وهم يحاولون عبثا الوصول الى قمة العمود. لكن مع كل محاولة ينزلقون إلى الأرض وملابسهم كلها ملطخة بالصابون. تركنا خلفنا حفلة عقيقة ابن القائد الگلاوي. وذهبنا قاصدين محل أمين الجزارين. ابتاع والدي من عنده رطلين من لحم الضأن. ثم اشترى من محل بقالة مجاور كيلوغراما من حلوى الفنيد. وأخيرا عرجنا على الإسطبل الذي أودعنا فيه الدابة. دفع والدي أجرة لراعي الإسطبل. وامتطينا ظهر الدابة عائدين نحو ديارنا بتاودانوست. قال لي والدي :
- لو واصلنا متابعة الفرجة والفيشطا بالقصبة. وأدركنا أذان المغرب. لبقينا بدمنات حتى الصباح. لأن البوابين يقفلون أبواب المدينة. ولا يعودون لفتحها حتى فجر اليوم الموالي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
دمنات : من يوميات عام البون بويهوكن وأعمال السخرة الجزء 2
الحلقة الرابعة ( 06)
بقلم : ذ: عصام صولجاني
كان النسيم البارد، يضرب في وجوهنا، مع غروب ذاك اليوم الخريفي. ونحن في طريق العودة نحو ديارنا بتاودنوست. وكان الغسق الذي أخذ في الهبوط، قد تحول بسرعة إلى ظلام دامس. سألت أبي:
- ماذا سنبيع في متجرنا الجديد؟
-كل ما هو متاح من السلع يابني. ولكن علينا في البداية أن نكتفي بكمية بسيطة. كي لا نثير انتباه الفضوليين والبرگاگة.
-لو أتى أحدهم لإزعاجنا، سأذهب لأشتكيه عند القائد الگلاوي.
-أتريد أن تخرب بيتنا يا ولدي؟
-لماذا يا أبي؟
- لو وجدت القائد الگلاوي في مزاج سيء.
فسيتصرف معك بسوء. وقد يسألك عن الهدية الثمينة التي منحك، وهو لا يعلم بقيمتها الحقيقية. ولربما أشار عليه أحد أعوانه ممن رأوك تتسلمها منه يومذاك.
- هذا لن يحدث يا أبي. لأن القائد الگلاوي هو فقيه حامل لكتاب الله. ويقدر قيمة الفقهاء والطلبة. و بكل تأكيد سوف يتذكرني، عندما وقفت بين يديه أستعرض حزبا من القران الكريم.
-نرجو الله التوفيق والستر يا ولدي.
صوت خشخشات الطيور وسط الأشجار والأحراش وهي تهجع للنوم. ونباح كلاب يحمله الصدى من بعيد. إنه الليل قد بدأ يعزف موسيقاه في هذا الفضاء البديع . وصلنا إلى بيتنا. نزل أبي من ظهر الدابة وذهب ليصلي صلاة المغرب. أما انا فقد أخذت بزمام الدابة، وقدتها نحو مربطها بالحظيرة.بعد ذلك دخلت إلى فناء المنزل. ووسط ضوء الشموع قبلت يد والدتي، وسلمت على خالتي سعدية.قلت لوالدتي بحماس وفرح :
- زغردي يا أماه. لقد اشترى أبي دكانا كبيرا بمدينة دمنات.
-أعلم بذلك يا بني. لقد أخبرني والدك بالأمر. لله الحمد وله الشكر على ما أعطانا.
التفتت خالتي سعدية إلى أمي مهنئة :
- مبارك ومسعود يا أختي.
مددت يدي إلى كيس حلوى الفنيد. تناولت منه قطعا، وأفرغت الباقي على الطاولة. وقلت لأمي و لخالتي سعدية:
- هذه الحلوى بهذه المناسبة السعيدة.
دخل علينا الوالد، وما أن رأته خالتي سعدية حتى تقدمت نحوه مهنئة:
-مبارك ومسعود لكم هذا الدكان يا زوج أختي.
رد عليها أبي بابتسامة عريضة :
- الله يبارك فيك يا سيدة سعدية.
حملت أمي في يدها، اللحم المكور في ورق الكاغظ. وسألت أبي:
- هذه كمية كبيرة من هبرة اللحم. أتريد أن نطبخها في طاجين؟
رد عليها والدي :
-هذا نصيبكما من اللحم، تصرفا فيه كما تشاءان. نحن قد ازدردنا طبقا كبيرا من اللحم المشوي بدمنات. ويكفينا قليلا من حساء الذرة كوجبة عشاء .
ولجت والدتي إلى غرفتها .فتعقبها الوالد. وشرعا في محاورة هامسة. فيما شمرت خالتي سعدية عن ساعدها. وذهبت لتهيئ لنا وجبة العشاء. صعدت الأدراج إلى غرفتي بتامصريت مسرعا.تناولت عود ثقاب ودعست رأسه على سطح خشن بالجدار. ووضعت شعلته على ألسنة الشموع الملتصقة بأركان الغرفة. ثم ارتميت فوق تليق من الحلفاء.لا أكاد أصدق نفسي. وأنا أرى هذا التحول الكبير، الذي طرأ على حياتنا على حين غرة. تذكرت المبلغ المالي الذي خبأته بعمود تملالت. وتذكرت أيضا الملابس العصرية النظيفة، التي أهدتني إياها مادام ليفي. قلت في نفسي:
- لما لا أرتدي هذه الملابس العصرية. وأنزل إلى مدينه دمنات كأي واحد ميسور الحال. لكنني تذكرت أن العيون الوقحة للمخبرين ستكون لي بالمرصاد. ربما سأرتديها عندما سأزور كازابلانكا أو مدينة مراكش في قادم الأيام .
رفع أذان صلاة العشاء من مسجد الدوار. توضأت ثم ذهبت صحبة أبي للصلاة بالمسجد. وجدنا هناك مجموعة من الفلاحين، من سكان الدوار يجلسون عند بوابة المسجد. وهم يتحاورون في أمور الحياة. و صعوبة المعيشة. قال أحدهم مخاطبا والدي :
- لم نعد نراك كثيرا يا أوبنعازي.
فرد عليه والدي بهدوء :
- ألهتني متطلبات الحياة .
لكن سرعان ما أقام الإمام الصلاة. فهب الجميع إلى داخل المسجد ، ووقفوا خلف الإمام في خشوع. وعندما رجعنا إلى البيت وجدت والدتي وخالتي سعدية، يجلسن حول الطاولة. لاحظت أن والدتي قد ازدادت قوة وعزيمة. ولاح بريق العافية في عينيها. أما خالتي سعدية، فقد انهمكت في ملء زبديات من الفخار، بحساء الذرة المشبع بالزعتر والحليب البقري الطازج. سألت والدتي باستغراب:
- لم لم تطبخا نصيبكما من اللحم، أنت وخالتي سعدية؟
-غدا إن شاء الله سأطبخ منه طاجينا لذيذا.قالت والدتي وأضافت ضاحكة :
- إن عدد الأيام ياولدي هو أكثر من عدد حبات البصل.
تناولت حساء الذرة الشهي، مع قطع من التين المجفف. وقلت لوالدي بحماس:
-غدا إن شاء الله سأذهب إلى دمنات لأستقصي عن أنواع السلع وتجار الجملة.
-ومن سيخبرك بأسرار حرفة التجارة يا ولدي؟
-أجبت أبي بكل ثقة :
- سأسأل السيد ليفي بالملاح. وسأستفسر عن الأمر عند بعض الأصدقاء.
-وفقك الله يا ولدي.
قال لي أبي وهو يهم بدخول غرفة النوم. أما والدتي فقد أخذت توصيني بأخذ الحيطة والحذر وأنا أزور مدينة دمنات. وخالتي سعدية تدعو لي بالنجاح. صعدت إلى غرفتي أطفئت الشموع، ثم استلقيت باسترخاء، وسحبت فوق جسمي حنديرة صوفية ثقيلة. وبدأت ذاكرتي في استعراض مشاهد مختلفة. مشهد القائد الگلاوي وهو يضحك مع المراقب العام المدني الفرنسي. عند مستهل حفلة عقيقة ولده. وصورة الغانية الجميلة السبليونية مولات الخال وهي تشرب الخمر من زجاجة الروج. وصورة الفتاة الجميلة حنا ليفي، وهي تتغنج أمامي بحوش منزلها. وصورة السيد لوازيس هو ينفت الدخان من غليونه. . وقامة مدام ليفي وهي بلباس الشوميج الخفيف، حاملة صينية الشاي بالعسل. وصورة الفتاة اليهودية الفارعة صولا مزراحي، التي طاردتني بأزقة الملاح. ومشهد الضباط الفرنسيين بالثكنة العسكرية. وهم يرفعون علم بلادهم. أخذت هذه الصور تتوهج في ذهني ثم تنطفئ. حتى حملني طائر النوم بين جناحيه وسافر بي بعيدا.
مع أذان صلاة فجر . قمت من النوم في كامل نشاطي. توضأت وصليت الفجر. ثم ارتديت بدعية مع سروال صوفيين وجلبابا من الكتان. و انتعلت حذاء الشورش الإنجليزي . ونزلت الأدراج متجها نحو باب المنزل للمغادرة. لمحتني الوالدة ونادت علي قائلة :
- تناول فطورك أولا ثم غادر.
- إن مدة النهار الخريفي قصيرة يا أماه.
قلت لها وأنا أجلس على الكاطري . قدمت خالتي سعدية حاملة قدرا طينيا مليئا بحساء الشعير، المطبوخ مع زيت الزيتون والزعتر البلدي. شربت زبدية من هذا الحساء اللذيذ على عجل. وتوجهت نحو الباب للمغادرة. ووالدتي ترسل في أثري دعوات الخير والبركات. ولم أكد أبتعد من أمام المنزل حتى ناداني أبي وكان عائدا من مسجد الدوار. هرولت نحوه وقبلت رأسه وأخذ يوصيني:
- انتبه لحالك، وحاول أن تعود وقت الغذاء. أما أنا فسأذهب لجني الزيتون من الشجيرات القليلة بالحقل.
- أعانك الله يا أبي.
قلت مودعا. لكنه قال لي بإلحاح :
-لم لا تمتطي ظهر إحدى الدواب؟
- أستطيع الذهاب والعودة راجلا يا أبي.
قلت وأنا أسير بخطوات سريعة بين الأشجار. كان عبق النباتات الممزوج برائحة وادي مهاصر، يتسلل إلى خياشيم أنفي، ليشعل في فؤادي جذوة حب الحياة.
الطبيعة الهادئة السعيدة، تحتفي بصباح اليوم الجديد. جبال أغري الشماء، وقمة جبل رات البيضاء، والخيوط الذهبية لأشعة الشمس، وهي تطل من خلف جبل توگ الخير. زقزقات العصافير وأناشيد الطيور تملا الفضاء فرحا. ومن بعيد يتردد صدى أصوات التكبير والصلاة على النبي. من عمال جني الزيتون الموسميين.اختصرت الطريق إلى دمنات عبر دوار أيت معياض، مرورا بمروج منطقة إسران. وكانت عوامل الجفاف بادية على أشجار الزيتون الخاوية، والحقول التي لم يحرثها أصحابها لسنوات متتالية. وصلت إلى دمنات. عبرت بوابة باب إعرابن نحو ساحة المحرك. وكانت الساحة ماتزال فارغة. إلا من بعض السكان اليهود، وهم يملأون القدور الطينية بالماء من مطفية قريبة من سور الملاح. وطلائع دواب الفلاحين القادمين من الضواحي. بدأت في الوصول وهي محملة بالخضار والبقوليات. ألقيت نظرة على باب فندق إيشان بحثا عن العرص حمادي بوتازاريين. لم يظهر العرص بعد. وليس من عادته التأخر. فما المانع الذي أخره يا ترى؟ تساءلت وأنا أتذكر الفراشات الوردية بفندق إيشان. وخطر ببالي ان أذهب إلى مقهى الزيزوة، لأستفسر القهوجي عن غياب أحلى عرص في الدينا. لعل أن يكون غيابه مجرد تأخر طارئ. وإلا فطريق وصولي إلى حوض السبليونية مولاة الخال سيكون صعبا. عبرت من أمام القهوجي صاحب الزيزوة، وعبق رائحة القهوة المطبوخة يملأ المكان. مر بجانبي السيد لوازيس مخلفا وراءه رائحة دخان تبغ الأمستردام الفواح.اشتممت رائحة زلابيات السفنج فقصدت محل بائعه في زنقة السماط ووجدت دكانه مزدحما بعشرات من الزبناء. انتظرت حتى جاء دوري، لأظفر بسبع قطع كبيرة من السفنج. وعدت فورا نحو مقهى الزيزوة. جلست على الحصير وبدأت في التهام قطع السفنج المقرمشة، حتى أتاني القهوجي بكأس القهوة المحلاة. سألته عن سبب غياب العرص حمادي بوتازرين. فأجابني قائلا :
- قبل يومين ذهب في زيارة لعائلته بالضواحي الجبلية.
احتسيت القهوة اللذيذة ،وطلبت كأسا آخر، شربته واقفا على ناصية المحرك.تركت خلفي مقهى الزيزوة وقصدت حانوت بائع الخمور لوازيس وألقيت عليه التحية:
- صباح الخير مسيو لوازيس.
-مرحبا أي خدمة ياسيد؟
- من فضلك أريد زجاجة فينيكس سعة نصف لتر.
بدأ يبحث بين رفوف زجاجات الخمر للحظات. حتى التقط زجاجة واحدة كانت مندسة بين قناني الروج. وقال لي مبتسما :
-هذه آخر زجاجة من الفينيكس بالمحل.
-قلت له مبتهجا :
-لو تكرمت يا سيد لوازيس، انزع قطعة الفلين من الزجاجة. لأنني أجد صعوبة في نزعها.
وعلى الفور تناول المسيو لوازيس مسمارا لولبيا. وبحركة خاطفة قام بسحب قطعة الفلين، مصدرا صوتا مميزا. تناولت الزجاجة وشرعت في الشرب دون ان ألتقط نفسا واحدا. حتى أتيت على نصف القارورة. نظر إلي السيد لوازيس مستغربا وقال
لي بدارجة مكسورة:
- لا تشرب الخمر كما الماء حتى لا تموت بسرعة. وضعت الزجاجة بإحكام تحت الجلابة. وقصدت حي الملاح. دخلت من البوابة الشمالية. كان الملاح هادئا ذلك الصباح. إلا من أصوات ماكينات الخياطة وهي تدور بين أيادي الخياطات اليهوديات البارعات. وصلت عند محلات بيع الثوب والأقمشة. رأيت السيد ليفي وهو منهمك في ترتيب رزم الأقمشة.قرأت عليه السلام. وبمجرد أن رآني حتى أقبل نحوي مرحبا تعلو وجهه ابتسامة عريضة:
-مرحبا بك يا تودانوسي .
-بارك الله فيك يا سيد ليفي،جئت لأستشيرك في أمر شخصي.
-أنا رهن إشارتك تفضل.
-لقد اشترى والدي متجرا بزنقه القشاشة. ويريد العمل في التجارة، وهو لا يعرف من أين يشتري البضاعة بالجملة.
- مبارك ومسعود لكما هذا المتجر. إن التجارة هي سيدة المهن.يوجد فيها الربح الوفير. اذهب إلى ساحة المحرك واسأل عن التاجر بن الحزان حبيب. وقل له بأنك أتيت من طرف ليفي.
شكرت السيد ليفي وحييته بحرارة لكنه اقترب مني وقال لي بصوت منخفض :
-قل لأبيك بأن أسعار الذهب في ارتفاع هذه الايام. وهذه فرصة لا تعوض إذا ما أراد أن يبيع ذهبه.
- هذا خبر سار يا سيد ليفي، سأخبره فور عودتي شكرا لك .
وما أن غادرت محل السيد ليفي حتى وجدت نفسي وجها لوجهه أمام البنت اليهودية الفارعة الجميلة صولا مزراحي. بتسريحة شعرها الكوباس، و تشاميرها الفضفاض.حاولت أن أتظاهر بعدم رؤيتها مطأطأ رأسي. لكنها بادرتني بالسؤال:
- كيف حالك يا التاودانوستي؟
-بخير يا سيدة صولا.
-هذه فرصة لأعرفك على والدي موشي مزراحي.
- لا بأس في ذلك يا سيدة صولا.
تمشينا لبضعة أمتار حتى وصلنا الى دكان والدها. وخاطبته بلغة عبرية لم أفهم منها سوى كلمة التاودانوستي .وكان والدها رجلا يبدو في العقد السادس من عمره. طويل القامة، بأجفان ضيقة تغطيهما نظارات طبية. وشارب طويل معقوف، يرتدي بذلة إنجليزية أنيقة. وكان منهمكا في صقل دملج ذهبي. أنزل ببطء نظاراته حتى أرنبة أنفه ثم نظر إلي مبتسما وقال :
-مرحبا بك، أنا على استعداد لشراء كل الذهب الموجود عندكم وبأسعار تفضيلية.
-شكرا لك يا موشي، سآتي عندك في المرة القادمة.
قالت لي صولا أمام والدها :
- تعالى معي إلى المنزل لنشرب الشاي.
وأضاف والدها مرحبا :
-إذهب معها لتعرفك على عنوان السكن حتى إذا لم تجدني بالدكان جئت إلي بالمنزل.
قلت لهما بأدب :
- أنا اليوم في عجلة من أمري. لندع أمر الضيافة حتى يوم آخر.
لكن صولا ألحت علي وكلمتني بمايشبه الاستعطاف ببحة صوت بها رنة غنج ودلال:
-ولو لمرة واحدة يالتاودانوستي، مثلما زرت بيت عائلة ليفي.
أجبتها مركزا نظري على مفاتن جسدها:
- سأذهب لقضاء غرض بالمحرك وأعود .
ردت علي بلطف:
-أنا في انتظارك أمام الفران. لا تتأخر كثيرا.
مررت بسرعة من أمام محلات الصناع والتجار اليهود. وعبرت بوابة الملاح الجنوبية، نحو ساحة المحرك. وكان على يمين بوابة باب إعرابن بضعة عمال بجلابيب رثة، وأقدام حافية، يمسكون بالمعاول والفؤوس وهم منهمكون في غرس أشجار التوت. يقف إلى جانبهم موظف بيرو عراب ومسؤول أعمال السخرة، ابن قبيلة زايان المدعو بويهوكن الزاياني. مرتديا جلبابا عسكريا گوميا وممتطيا حصانه. ارتعدت فرائصي عندما رأيته. وهرولت بعيدا كي لا يراني. لكنني ما أن كدت أبتعد صعودا مع ساحة المحرك، حتى سمعته وهو يناديني بصوت قوي :
-تعالى إلى هنا يا أوبنعازي.
تجمد الدم في عروقي، والتفت نحوه، وإذا بي أراه يستدير بحصانه منطلقا نحوي. سلمت عليه وبادر بسؤالي :
- ماذا تفعل هنا؟
-جئت لإصلاح سكة المحراث الحديدية عند أحد الحدادين.
قلت بارتباك.
فرد علي بلهجة صارمة :
-أخبر أهلك وجيرانك، وقل لهم أن يستعدوا لأخذ التطعيم ضد مرض تاباوت الجذري سآتي عندكم مع الفراملية في اليومين القادمين. وكل من يرفض التطعيم سيكون مصيره السجن.
-بارك الله فيك سيد بويهوكن.
قلت له ودقات قلبي في تسارع. استدار بحصانه وانطلق بسرعة نحو أحد العمال الذين توقفوا عن العمل. وصرخ في وجهه:
- أكمل عملك ثم اذهب الى الجحيم الذي نفضك.
وعند متجر بنلحزان حبيب، كانت هناك شاحنه كبيرة يهدر محركها، وهي على أهبة الانطلاق. سألت أحد الحمالين الواقفين أمام المتجر عن التاجر بلحزان حبيب. فأشار بيده نحو رجل في العقد السادس من عمره. متوسط القامة بوجه مشرق ولحية مشذبة. يبدو عليه الوقار. وقال لي :
-إنه بلحزان حبيب الحقه قبل أن يصعد إلى الشاحنة.
تقدمت نحوه وألقيت عليه السلام. فسألني :
-ماذا تريد؟
-لقد أرسلني إليك السيد ليفي تاجر الاقمشة بالملاح بخصوص شراء سلع بالجملة.
-مرحبا.
-لقد اشترى والدي متجرا بزنقة القشاشة ويريد أن يملأه بالبضاعة المناسبة.
-كم مبلغ رأس المال؟
- سيأتي والدي للتفاهم معك بكل التفاصيل.
- عندما سأعود من السفر تعالى إلي صحبة والدك لنتفاهم.
-بارك الله فيك سيد بلحزان حبيب.
انطلق السيد بنلحزان حبيب رفقة مساعده على متن الشاحنة. تاركين وراءهم سحابة كبيرة من الذخان . عدت أدراجي نحو حي الملاح. وأمام الفران وجدت البنت صولا مزراحي وهي في كامل تبرجها وأناقتها. مزينة شفتيها بالعكر الفاسي ومرتدية بذلة من الدانتيل الأبيض المطرز بالعقيق. عبارة عن قميص بأكمام طويلة مع دائرة عنق مزدوجة وصاية عريضة فضفاضة.وفي قدميها حذاء أبيض ذو كعب عالي.وتساءلت في نفسي:
-أمن أجل الذهب تفتح لي هذه اليهودية قلبها؟
نظرت إلي صولا بابتسامة أبانت فيها عن مبسم عذب وقالت :
- لقد انتظرتك كثيرا أمام الفران.
أجبتها معتذرا :
- لا استطيع الذهاب معك إلى المنزل، كي لا تراني حنا ليفي وأقع في إحراج.
- لقد سافرت حنا وأمها إلى مدينة أزرو، لزيارة أخيها الذي يدرس بالثانوية هناك.
- هذا جميل.
-يبدو لي أنك تحبها.
- ما من حب ولكن هي علاقة إنسانية فحسب.
وصلنا عند باب بيتها، وكان بابا مصنوعا من خشب العرعار المنحوت بعناية. مع مشبك نحاسي مذهب. دفعت صولا الباب بيدها، فظهرت باحة البيت مبلطة بالزليج . قالت لي صولا مرحبة:
- تفضل بالجلوس.
جاء صوت أمها وهي تناديها من غرفة داخلية:
-أين تأخرت أيتها المسخوطة؟ .
غمزتني صولا بعينها ثم ذهبت لترى أمها. جلست على أريكة جلدية، في غرفة واسعة مصبوغة باللون الأزرق الفاتح ومفروشة بعشرات من الكاطريات. عليها أسرة من الحلفاء المغطاة بقماش الموبرة المزركش. وتتوسطها طاولة عريضة من السيراميك مرسوم عليها نجمة داوود وحروف بالعبرية لا أعرف معناها. أخرجت من تحت جلبابي قارورة خمر الفنيكس، وبدأت أرشف منها جرعات. عادت صولا رفقة أمها إلى الغرفة وقالت مخاطبة أمها:
- هذا هو التاودانوستي صاحب الذهب الذي حكيت لك عنه.
كانت أمها امرأة خمسينية، ماتزال في كامل جمالها. رغم بعض التجاعيد الخفيفة على وجهها. نظرت إلي نظرة إعجاب وخاطبتني :
-مرحبا وألف مرحبا بك يالتاودانوستي. هذه دارك تعالى إليها وقتما شئت.
-بارك الله فيه ألالة ومولاتي.
قلت لها باحترام. دلفت صولا رفقة امها إلى داخل المنزل. وبعد لحظات عادت وقد غيرت ملابسها. ولبست شوميجا أحمرا شفافا. حاملة صحنا نحاسيا عليه إناء مملوء بمخلل الزيتون والفلفل الحار. وإبريقا فضيا مملوء بماء الحياة، مع كأسين زجاجيين . وكانت رائحة ماء الحياة تفوح بعبقها داخل الغرفة. . قلت لها :
- معي قاروة من خمر الفينيكس.
فردت علي ضاحكة :
-خمر ماء الحياة لا يعلى عليه. إنه شراب الأكابر على مر الأزمان.
شربت صولا كأسها بطريقة خاطفة. وناولتني كأسي فاحتسيتها ببطء شديد لأتذوق طعمها. فأحسست بنار دافئة تسري على صدري وحرارة مشرقة بين ضلوعي. وطاقة جبارة تتصاعد من كياني.
سألتني صولا وهي تعب كأسا أخرى :
-أما يزال عندكم ذهب كثير؟
-نعم يا صولة توجد عند أبي جرة مليئة بالقطع الذهبية.
فلمحت بريقا ولمعانا في عينيها السوداوين. قالت وهي تعض على شفتيها:
-يجب عليك أن تبيع لنا كل هذا الذهب. أتعدني بذلك؟
- أعدك بذلك يا صولا، لكن بشرط أن يعطيني والدك السعر المناسب على كل قطعة ذهبية.
- وستعطيني خاثما ذهبيا مثل الخاثم الذي منحته لجارتي حنا.
-ومن أخبرك بسر ذلك الخاثم يا صولا؟
-لقد رأيت وسمعت كل شيئ.
-كيف ذلك؟
-الجيران اليهود مثل عائلة واحدة. لا أسرار بينهم.
وتساءلت في نفسي مستغرقا النظر في جسدها الفتان:
- كيف يدفع الطمع في الحصول على الذهب بفتاة يهودية جميلة مثل صولا مزراحي كي تعرض نفسها على شاب بدوي مسلم؟ حقا إن للذهب بريقا يصنع المعجزات.
تناولت صولا إبريق الماحيا وأخذت تعب الكأس تلو الأخرى. وفي لحظة شربت كأسها ومدت كأسي إلى فمي قائلة :
- سأسقيك هذه الكأس بيدي.
قلت لها منتشيا بشرب ما تبقى من خمر الفنيكس:
- الذهب و ماء الحياة يفتحان قلوب البنات.
سقتني الكأس بيدها فتلمست حرارة جسدها. وهكذا استرسلنا في الحديث عن الذهب وأمور الحياة الأخرى. حتى أتينا على آخر قطرة من المشروب.وفي لحظة، انتفضت نار اللذة بيننا مثل كرة من اللهب. وصار ما صار من تبادل للقبل، وقصف مدفعي، وغارات خاطفة، أصابت مفاتنها بدقة متناهية....
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ