الأحزاب السياسية بين رموز الأمس وأثر التراجع الفكري والتنظيمي
بقلم: جميلة حلبي
إن ما طفى على سطح الأحداث مؤخرا من مشاكل بين الأحزاب، وداخل الحزب الواحد، وبين الأحزاب والمواطنين.. ليتطلب الرجوع إلى المرجعية الفكرية والسياسية للأحزاب ببلادنا مع ما تحمله كلمة سياسية من معنى عميق في ممارسة السياسة، وليس كممارسة السياسة اليوم، فشتان بين الأمس واليوم..
الكل على علم بـ”الهفوات” الأخلاقية – حتى لا نقول شيئا آخر – التي سقطت فيها بعض الأحزاب في السنين الأخيرة، مما يندى له جبين السياسة، وكان له الوقع السلبي على استمرارية الأحزاب أو الأشخاص المعنيين في حلبة السباق نحو منصات التتويج، والظفر بالكراسي الكبيرة ذات الحمولة الكبيرة(…)، كما نقصد بالأخلاقي المستوى المتدني للبرامج الحزبية التي ملؤها التفاؤل في كل حملة انتخابية، لكن سرعان ما تندثر الوعود ويتكون جسر منيع بين المنتخبين والناخبين بعدما “يتبلص” الفائزون بالأصوات، وبعدما يتم اقتسام “الغنيمة”، وينسى أو يتناسى عدد من المنتخبين أنهم يتحملون مسؤوليات تدبير الشأن أو الدفاع عن مصالح المصوتين عليهم، ويغرقون في بحر الامتيازات تحت شعار “نعيش حياتي” أو “أنا ومن بعدي الطوفان”، ولم يكن يدر بخلد العديد منهم أن الطوفان قادم لا محالة.. وها نحن نعيش فصول حملة تطهيرية نتمنى أن تستمر لتجفيف منابيع الفساد، هذا الفساد الأخلاقي والإداري والتسييري الذي ليس من شأنه إلا أن يقود المغرب إلى الحضيض.
فقد كانت الأحزاب تتأسس على ميثاق أخلاقي قبل الميثاق السياسي، وإذا رجعنا شيئا إلى الوراء، وألقينا نظرة على تسلسل تأسيس الأحزاب، فإننا نجد كل الأحزاب كانت ذات مرجعية واحدة وهي الحركة الوطنية، وكان أول حزب مغربي يحمل اسم “كتلة العمل الوطني”، تأسس سنة 1934 من طرف علال الفاسي ومحمد حسن الوزاني وأحمد بلافريج وآخرين، وكان عندما يقع اختلاف في الرؤى السياسية أو في برنامج سياسي، يحصل انشقاق ويتم تأسيس حزب آخر، لكن يبقى الهدف واحدا لا يخرج عن الدفاع عن مصلحة البلاد والعباد، وهنا لا بد من التذكير بالأحزاب التي تأسست في تلك الفترة من تاريخ المغرب ليعرف القارئ حمولتها الفكرية والسياسية التي ضمنت لها الاستمرارية إلى اليوم: حزب الاستقلال (تأسس سنة 1944)؛ حزب الشورى والاستقلال (1946)؛ حزب الحركة الشعبية (1959)، حزب التقدم والاشتراكية، وحزب العمل (1974)؛ حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية (1975)؛ حزب التجمع الوطني للأحرار (1978)؛ الحزب الوطني الديمقراطي (1981)؛ الاتحاد الدستوري (1983)؛ حزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي (1992)؛ حزب الحركة الديمقراطية الاجتماعية (1996)؛ حزب العدالة والتنمية (1996)؛ جبهة القوى الديمقراطية (1997)..
وقد نشأت الأحزاب السياسية في سياق وطني لمواجهة الاستعمار، لذلك لم يكن الحزب يعبر عن فئة اجتماعية واحدة، وإنما كان يمثل الشعب المغربي بكل مكوناته، وهو ما جعل الأحزاب في فترة الخمسينات والستينات والسبعينات وحتى الثمانينات، تشتغل وفق مبدأ الإجماع الوطني ضد الحماية، وهذا ما طبع مسارها السياسي رغم اختلاف المرجعيات بين الدينية والشيوعية والاشتراكية..
وبالرجوع إلى الأسماء التي أثثت المشهد السياسي في تلك السنوات، فنجد أسماء وازنة لا زالت مرجعية فكرية إلى اليوم، حيث سميت مؤسسات فكرية بأسماء بعضهم، سواء مؤسسين أو أعضاء، ونذكر على سبيل المثال: علال الفاسي، محمد حسن الوزاني، المهدي بنبركة، عبد الرحيم بوعبيد، المعطي بوعبيد، عبد الله إبراهيم، المحجوبي أحرضان، عبد الكريم الخطيب، لحسن اليوسي، علي يعتة، عبد اللطيف السملالي، امحمد بوستة، أرسلان الجديدي، محمد بن سعيد أيت إيدر، محمد اليازغي، أحمد عصمان، عبد الرحمان اليوسفي… واللائحة لا يتسع المقال لذكرها كاملة.
ومن التسعينات إلى اليوم، انضافت أحزاب أخرى، بوجوه مغايرة، ومرجعيات وأسس أخرى، إلا أن الملاحظ في كل محطة انتخابية، هو أن نفس البرامج تطرح على المواطنين، ليطرح التساؤل: ما الفائدة من تعدد الأحزاب إن كان ما يسطر في البرنامج الانتخابي له نفس الهدف (القضاء على الفقر، محاربة البطالة، محاربة الهدر المدرسي، تمكين المرأة… إلخ)؟ وهذا السؤال يحيل على سؤال آخر: هل نفذت بطارية الأحزاب اليوم؟
تراجع مستوى الأحزاب تزكيه طبعا التقارير الرسمية التي ما فتئت تطالب معظم الأحزاب بالالتزام تجاه الدولة وإرجاع مبالغ الدعم التي منحت لها – وهنا لا نعمم، إذ هناك أحزاب قامت بإرجاع ما في ذمتها – والطامة الكبرى تتجلى في استغلال الكثير من المنتسبين لأحزاب معروفة لنفوذهم السياسي، من أجل التغطية على مشاريع مشبوهة بما تضمه من صفقات تدبير قطاعات حيوية، وما خفي أعظم..
بالأمس، كانت الأحزاب مدرسة في الوطنية وفي تأطير الشباب وتأهيلهم لدخول معترك الحياة السياسية، وكذا تخليق الحياة العامة بما فيه مصلحة المواطنين، واليوم، أصبحت الأحزاب أو معظم المنتسبين لبعض الأحزاب “مدرسة” في الفساد بكل تلاوينه وفي تدمير الحياة العامة للمواطنين الذين يمنحون أصواتهم لهؤلاء حتى يتغولوا ويضعوا أنفسهم فوق القانون.. لولا بلوغ السيل الزبى، وفاضت كأس الكوارث التسييرية في مختلف القطاعات مما حرك القضاء لمتابعة المتورطين.
بالأمس كانت للأسماء التي تقود الأحزاب مكانتها حتى خارج الوطن، اعتبارا للمكانة العلمية والثقافية ولمرجعية الحزب، أما الآن، فيمكنك التعوذ عند ذكر أسماء بعض الأحزاب أو بعض الأسماء اعتبارا للفضائح التي ارتكبوها.
خلاصة القول، إن التقهقر وتراجع الأحزاب عن المهمة المنوطة بها في تكوين المواطن حتى يمكنه تحمل المسؤولية السياسية تجاه حزبه وتجاه الدولة وتجاه المواطنين، يستوجب وضع قوانين خاصة للانتماء الحزبي، والحد من الكم الجماهيري الذين تتم تعبئتهم فقط لـ”ملء الفراغ” والوقوف ندا للند مع الأحزاب الأخرى في مضمار السباق نحو المناصب وبحر الامتيازات.