الوصية الواجبة في القانون المغربي
بقلم : د. يسين العمري – دارس ومهتمّ بالقانون المقارن
ممّا لا شكّ فيه أنّ نشر المعرفة القانونية في المغرب يعدّ هدفا طَمُوحاً وغاية نبيلة، يتطلّب من الجهد والتفرّغ والمعرفة والوسائل الكثير والكثير، وآمل أن تكون سلسلة مقالاتي -القانونية منها- خلال شهر رمضان المبارك، محاولة بسيطة منّي لنشر هذه المعرفة، وما أحوج المجتمع المغربي لهذه المعرفة، التي إن اكتفت بنشر ثقافة الحقوق والواجبات لأدّت الغرض منها وزيادة.
كثيراً ما شعرت بالتقصير تجاه هذا الفرع من العلوم، لأنني كنت طالب حقوق بالجامعة، وكنت أرى نفسي وأنا أكتب في مجالات بحثية أخرى كالتاريخ والدين والسياسة مهملا، بل ومقصّراً في حقّ القانون مدرستي المعرفية الأولى، وأتمنى أن تكون هذه المقالة وما سيليها كنوع من ردّ الاعتبار للقانون، حرّكتها في جوانحي غيرة رجل القانون.
بالنسبة لاختيار موضوع الوصية الواجبة، فلي صديق عزيز كثيراً ما يسألني عن هذا الأمر، فقرّرت أن لا أكتفي بجوابه شفوياً، بل كتابة أيضاً، لعلّه وغيره يستفيد ويفيد، وإذن فالفضل بعد الله عزّ وجلّ في اختيار موضوع الوصية الواجبة يعود لصديقي الغالي يونس.
تعتبر الوصية الواجبة من المستجدّات التي جاءت بها مدوّنة الأسرة (القانون 70.03 المنشور بالجريدة الرسمية عدد 5184 بتاريخ 5 فبراير 2004)، التي حلّت محلّ مدوّنة الأحوال الشخصية لسنة 1958، ومن أهمّ ما جاءت به أنّها تعطي الحقّ لأبناء البنت في الاستفادة من تركة جدّهم، وفي هذا إعادة بعض الاعتبار للمرأة التي لحقها كثير من الحيف بسبب سيادة العقلية الذكورية والعادات الاجتماعية المتوارثة باسم الدّين، وطبعاً الدّين منها براء، وفيه تفعيل لمقتضيات الاجتهاد في قراءة التراث بما يتلاءم مع روح العصر.
فما هي الوصية الواجبة؟ وأين يكمن المستجدّ فيها؟ هل تعطي الحقّ فعلاً لأبناء البنت في الاستفادة من تركة جدّهم؟ وما الفرق بينها وبين الوصية الإرادية والإرث؟
نظّمت مدوّنة الأسرة الوصية الواجبة في الكتاب السادس المخصّص للميراث القسم الثامن من المواد 369 إلى 372، وحتى لا تكون القراءة قانونية من زاوية صرفة، سأحاول تيسير شرحها قدر المستطاع ليفهمها غير المتخصّصين في القانون، فالقانون موجّه للعموم وليس لأهل القانون فحسب، حتى أتفادى أن تكون هذه المقالة من باب أكل الخبز بالخبز.
اقتضت المنهجية أن أشرع بتعريف الوصية الواجبة التي تعني وصية مالية ثابتة للأحفاد في تركة جدّهم أو جدّتهم، ممّا ينوبهم من حصّة أمّهم أو أبيهم الذي توفي قبل أو مع أبيه أو أمه، ولأشرح هذا التعريف فالابن الذي يتوفى في حياة والديه ويترك أبناءًا، كان في السابق هؤلاء الأبناء لا يرثون لوجود أعمامهم، بحيث لو عاش والدهم لكان لهم نصيب من التركة، وهذا في تقديري كان أمراً لا يتّسم بالمنطقية، بل ويتّسم بالجور لأنّ الأعمام وأبنائهم يرثون ويحوزون التركة، ويُحرم منها أبناء أخيهم (الأبناء هنا ذكوراً وإناثاً)، ويكون الحرمان بسبب خارج عن إرادتهم، بسبب امتداد يد القدر لأبيهم في حياة جدّهم، وبقاء أعمامهم أحياء.
إذن تداركت مدوّنة الأسرة هذا الخلل، استناداً على اجتهاد المجتهدين من علماء الأمّة المغربية، ممّا يدلّ على قابلية بعض النّصوص التراثية للتأقلم مع الواقع، وفق المستجدّات ومتغيرات العصر، إذا كانت هناك إرادة سياسية تستهدف تغييراً مجتمعياً، وهذا ما حصل بناءًا على الخطاب الملكي السامي أمام البرلمان خلال افتتاح الدورة الأولى من السنة الثانية من الولاية التشريعية السابعة سنة 2003، حيث حثّ كلّ الفعاليات الفقهية والفكرية والسياسية على الانخراط في ورش مدونة الأسرة، استناداً على رفع الحيف عن المرأة والدفاع عن المصلحة الفضلى الطفل، وصون كرامة الرجل، واستحضار مفهومي الاجتهاد والإصلاح باستلهام روح العصر، مع احترام مبادئ الإسلام بحرفيتها.
وعليه، شرع علماء الأمة هذا الحقّ للأحفاد بناءًا على نصوص شرعية من القرآن الكريم، وسمّوه الوصية الواجبة، حتى لا يتمّ حرمان هؤلاء الأحفاد من حقّهم في التركة، وبالتالي فالوصية الواجبة تنفّذ بحكم وبقوّة القانون، وهذا ما يميّزها عن الوصية الإرادية، التي تبقى اختيارية من قبل الموصي، وتتوقّف على شرط موافقة الموصى له في حدود الثلث، فإن فاقت الثلث فإنّها تحتاج لإجازة باقي الورثة.
ولا تعتبر الوصية الواجبة ميراثاً محضاً، ولا وصية خالصة، فهي تشبه الميراث وتخالفه من وجوه عدّة، ولها بعض خصائص الوصية، فهي مثلاً تشبه الميراث في أنّها توجد وإن لم ينشئها المتوفّى، خلافاً للوصية الإرادية التي يُوجدها الموصي، أضف إلى ذلك أنّها أي الوصية الواجبة لا تحتاج إلى قبول، ولا تردّ بالردّ، بخلاف الوصية الإرادية.
كما أنّ الوصية الواجبة تخالف الميراث في أنّه يغني عنها ما يعطيه الجدّ لفرع ولده بدون عوض، أمّا الميراث فلا يغني عنه شيء، ثمّ إن الوصية الواجبة تشبه الوصية الإرادية في خصائص منها أنّها تجب في حدود ثلث التركة، وتُقدّم على الميراث، كما هو الشأن في سائر الوصايا.
وللإشارة، فإنّ مصطلح الوصية الواجبة ظهر مع مدونة الأحوال الشخصية لسنة 1958، غير أنّه آنذاك كان النقاش المطروح والإشكالية هي: هل مدونة 1958 كشفت عن هذا الحقّ أم أنشأته؟ وبعد نقاش فقهي محتدم، ثبت أنّ الوصية الواجبة على عكس الوصية الإرادية هي حقّ تمّ إنشاؤه في مدونة الأحوال الشخصية لسنة 1958، وليست حقّاً سابقاً، إذ كان هذا الحقّ في طيّ الكتمان، ويلفّه غموض كثير.
وبالتالي فإنّ المستجدّ في الوصية الواجبة في مدوّنة الأسرة الجديدة، هو أنّها شملت أبناء البنت بالتحديد، وهم من كانوا غير مشمولين بمقتضيات مدونة الأحوال الشخصية لسنة 1958، بحيث أبناء البنت لم يكن لهم حقّ الاستفادة من أموال جدّهم في حال وفاة والدتهم قبل جدّهم، وبالتالي حسناً فعلت المدوّنة الجديدة في تقديري إذ جعلت لأبناء البنت على غرار أبناء الابن نصيبا من تركة جدّهم، وأرجّح أنّ هذا التغيير أو المستجد ذو مرجعية اجتهادية وله حمولة حقوقية سعت لخلق نوع من التوازن الاجتماعي بين المرأة والرجل، وهذه هي فلسفة الرسالة الملكية المشار إليها أعلاه.
وختاماً، أتمنى أن أكون قد وُفِّقتُ أو على الأقلّ ساهمت في إماطة اللثام عن الوصية الواجبة، وإزالة بعض اللبس الحاصل لدى البعض، بحيث يقع الخلط بينها وبين الوصية الإرادية والإرث.
فاس يوم الأربعاء فاتح رمضان 1442 – الموافق 14 أبريل 2021.
لاقتراح مواضيع قانونية يرجى التواصل مع كاتب المقال عبر بريده الإلكتروني:
juriste.journaliste@gmail.com
وصدق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذ قال: “الدّال على الخير كفاعله”، وختاماً أتمنى للقرّاء شهراً مليئاً بالخير واليمن والبركات.