محاصرون في عالم الشاشات والمرايا، نتساءل عن هويتنا وعن معنى وجودنا، نعيش في زمن تسيطر فيه صورنا المعكوسة على حياتنا اليومية، حيث باتت المرايا، سواء كانت حقيقية أو مجازية، رمزًا لعصرنا.
هذه الشاشات التي نقضي أمامها ساعات طويلة، تعكس لنا صوراً زائلة تتلاشى سريعاً في نهر النسيان، لم يعد يكفي أن نعيش ببساطة، بل علينا أن نعرض حياتنا ونوثق كل لحظة منها، وكأن وجودنا مرهون بالظهور في هذه المرايا الإلكترونية.
في عصرنا، لم يعد الترفيه أو العلم مجرد تجربة شخصية أو إنجاز فردي، بل تحول إلى استعراض دائم، الذهاب إلى حفل موسيقي لا يكتمل إلا بالتقاط صورة أو تسجيل مقطع فيديو، الباحثون، بدورهم، يسعون وراء الإعجابات، في محاولة ليُنظر إليهم ويُعترف بهم.
لقد أصبحنا محاصرين في متاهة من الانعكاسات، وإذا لم تظهر صورتنا في المرآة، نشعر بأننا غير موجودين.
هذه الحالة ليست وليدة اللحظة، فمنذ أواخر القرن العشرين، تناول العديد من المفكرين هذه التحولات في الذاتية بأوصاف مثل “الثقافة النرجسية” و”عصر الفراغ”، لتتوالى الأبحاث والدراسات التي تبيّن كيف أثر النمط الحياتي المتسارع في تفتيت الذوات والسيطرة على أجسادنا وأفكارنا، ومع تزايد اعتمادنا على المرايا والشاشات، بات هذا التفتيت أكثر وضوحاً، حيث نجد أنفسنا نتعلق بصور متكاملة نراها في هذه المرايا المظلمة.
منذ القرن الماضي، اهتم العلماء بعلاقة الإنسان مع صورته في المرآة، كان “هنري والون” أول من تحدث عن “اختبار المرآة”، حيث يبدأ الطفل في التعرف على نفسه بين عمر 6 و18 شهراً، وهو في حضن والدته أو “الآخر الأول” كما يسميه بعض العلماء.
عالم النفس الفرنسي “جاك لاكان” طور هذا المفهوم إلى ما يعرف بـ “مرحلة المرآة”، حيث يبدأ تكون (الأنا) لدى الطفل من خلال التماهي مع صورته في المرآة، في هذه المرحلة، يلعب (الآخر) دوراً حاسماً كداعم لتكوين هوية الطفل وتوفير “مساحة الدعم” التي تساهم في استقراره النفسي.
لكن اليوم، نعيش في ثقافة تهمش هذا الدعم البشري، فبدلاً من الاعتماد على الآخر، أصبحت المرايا هي التي تقدم لنا هذا الدعم الزائف والمؤقت.
نحن نسقط في فخ “نرسيس”، ذلك الشخص كما تقول الأسطورة الذي ضاع في حب صورته حتى انتهى به الأمر في الظلام.
وفي زمننا هذا، أصبح التعلق بهذه المرايا سبباً في انتشار أمراض الصحة النفسية مثل الاكتئاب والقلق، حيث يشعر الإنسان بالعزلة في مواجهة صورته فقط، دون وجود الآخر الذي يمكنه تقديم الدعم الحقيقي.
المشكلة ليست في الصورة ذاتها، بل في أن الصورة أصبحت فرضاً وجوديا في النسق الاجتماعي المعاصر، فنحن مطالبون بأن نظهر، وأن نبدو في أفضل حالاتنا، وأن نقدم لأنفسنا وللآخرين صورة مثالية عن حياتنا، لكن مع مرور الوقت، يصبح هذا الظهور عبئاً يزيد من شعورنا بالوحدة والعجز.
الصور التي نراها في المرايا ليست كافية لدعمنا، بل هي وهم يتلاشى سريعاً، وكلما تعلقنا بها أكثر، زادت حاجتنا إلى الظهور أكثر.
الحل واضح، كما هو الحال في قصة “الرسالة المسروقة” لإدغار آلان بو، فالدعم الحقيقي يكمن في الآخر، في العلاقات الإنسانية التي تشكل الأساس الذي نقف عليه، المرآة لا تقدم لنا هذا الدعم، بل تعيد لنا صورة منعكسة لا حياة فيها. علينا أن نتذكر أن هناك دائماً آخرون حولنا، هم من يشكلون هويتنا ويساعدوننا على مواجهة هذا العالم، فقط من خلالهم، نستطيع أن نعيش حقاً.