"صابون تازة.."
فلم: عبد السلام انويكة
بتموقع متباين وأدوار ذات علاقة بجوار فضلا عن طبيعة عمارة، تتقاسم أسوار تازة التاريخية المحيطة بمجالها العتيق أبواب أثرية شهيرة، واحدة منها من جهة الغرب موسومة بـ”باب الزيتونة”، التي لا شك في أنها طوبونيميا تشهد على ما طبع بيئتها من أشجار زيتون ببساتين ممتدة منذ القدم، تلك التي ظلت ببقايا مشهد ومنظر وأثر إلى عهد قريب حيث ستينيات القرن الماضي، غير بعيد عن هذا الباب على مستوى ما يعرف محليا بـ”واد تازة” و”بوزكري” و”ماكوسة” وكذا أجراف “ليروشي”.
ولعل من خلال ما هناك من إشارات خجولة بمصادر تاريخية وسيطية وبدراسات حديثة، فضلا عن أثر روماني عن مغرب العصر القديم، يظهر أن ما كان من شجر زيتون ارتبط بشمال البلاد حيث وليلي وليكسوس ومحيطهما، مع أيضا منطقة فاس وتازة التي من قبائلها التي كانت بشهرة وعناية بهذا النوع من الشجر نجد قبيلة مكناسة. وعليه، ما كان من انتشار له بمجال امتدادها حيث فاس ومكناس وتازة، وأن درجة الإقبال على غراسته اتسع أكثر زمن دولة الموحدين بغرض التغذية والإنارة، بدليل إشارة وإفادة تاريخية معبرة في أحد مصادر المغرب التاريخية، حول كون غارس جل أشجار زيتون منطقة تازة هو عامل بلاد المغرب محمد بن عبد الله بن واجاج في بداية دولة الموحدين.
ويسجل عموما ما تزخر به ذاكرة تازة المادية واللامادية من بصمات ذات علاقة بشجر الزيتون، فضلا عن إحالات وأثر ضارب في القدم ولا يزال حيا متوارثا منذ قرون؛ ذلك الذي بقدر ما يعد جزءا من هوية مكان حضارة وإنسانية زاخرة بصور حياة بقدر ما لا يزال هذا الأثر والذاكرة بدون ما هو شاف من معلومة ودراسة وإبراز وتأسيس علمي.
ولعل من عظمة تازة المدينة والزمن الإنسان ما هناك من حديث حول “صابون تازة”، ومن ثمة السؤال حول أية قصة وأثر تاريخي، وأي موقع لهذا المعطى في تراث المدينة وعبقها الرمزي. وماذا عن طبيعة ما كان من منتج وحرفة وخبرة، وأية علاقة للزيتون والزيوت وصناعة الصابون بتازة الموحدية، وما حدود الخبر في المصادر ونصوص الرحالة والمستكشفين وغيرهم. بل ماذا عن حقيقة “صابون تازة” الذي سارت بذكره الركبان من حيث إنتاجه وأمكنته ولونه، وأية تميز جعله بما هو عليه من صدى ومقولة، وأية مراحل إنتاج طبعته بين جمع وخزن وعجن وطبخ وتجفبف وتقطيع ..، وهل قصة “صابون تازة” حقا جزء من إرث المدينة الثقافي الذي يحق الفخر والاعتزاز به، وما علاقة حرفة صناعة الصابون بفترات المدينة الذهبية، وبخاصة زمن دولة بني مرين في أول أمرهم السياسي، وما كانت عليه تازة من دور وقرار عاصمة البلاد المؤقتة، ومن نفوذ وسيادة وقيادة ورعاية سلطانية. ثم أية تجليات ازدهار لهذه الصناعة محليا وأي عرض وطلب ورواج، وهل منتوج المادة من صابون تازة كان يقتصر على توفير الحاجة المحلية، أم كان ينقل إلى جهات ومدن وأسواق أخرى من قبيل فاس لجودته، وأية أسر تازية وصناع ارتبط اسمهم بهذا النوع من الحرف، وأية تطورات وتغيرات شهدها “صابون تازة” في مغرب العصر الحديث وكذا المعاصر وبخاصة القرن التاسع عشر الميلادي، وأية أمكنة شاهدة ظلت إلى غاية مطلع القرن الماضي، وأية رواية تازية حديثة حول ما هناك من حديث عن استمرارية صناعة الصابون بتازة إلى عهد قريب حيث ستينيات القرن. وما أثر ما هو طبيعي وبشري على أمكنة هذه الصناعة، وهل حديث الذاكرة المحلية عن “صابون تازة” في حد ذاته حديث عما تم طمسه من تاريخ وثقافة وأثاث حضاري، وأية سبل رافعة لجعل تازة عبر رمزية “صابونها “ببعد أثري وأفق إنساني فضلا عما هو وطني.
وعن صابون تازة وحقيقته ومصدر صناعته، فضلا عما ورد من إشارات مصدرية حول شجرة الزينون وصناعة الصابون في مغرب العصر الوسيط هنا وهناك من المدن، ومنها ما جاء عند أبي عبيد البكري والمقديسي وابن أبي زرع والإدريسي وغيرهم، وما جاء أيضا من إشارات مهتمين وباحثين تراثيين مغاربة، من قبيل الأستاذ عبد الهادي التازي لافتا إلى أن تازة كانت عاصمة الصابون. من الروائيين المغاربة من ارتأى لعمله الإبداعي “صابون تازا” عنوانا، وقد استلهمه من خطاب المغاربة التراثي الشفهي المتداول، على تباين تلميحات وإحالات عبارة “صابون تازة” وما تتقاسمه الذاكرة المغربية بين مدن وبوادي من “هادشي خصنا معاه صابون تازة”. ومن جملة القصص الشعبية ذات الصلة بعبارة “صابون تازة”، ما ورد في علاقة بما طبع المدينة من قوة عزيمة وشدة مقاومة للمستعمر زمن الحماية؛ ذلك أن السلطات المحلية الاستعمارية بتازة اعتقلت أحد المقاومين التازيين، والذي كان أحد صناع صابون المدينة الذي ذاع صيته وصدى جودته في المغرب. وهو الإجراء الاستعماري المستفز الذي كان برد فعل من أهل تازة الذين خرجوا مجتمعين محتجين صوب مكان الاعتقال، وخوفا من أن تتطور الأحداث لما لا تحمد عقباه أمنيا بالمدينة والمنطقة ككل، ارتأى ضابط عسكري فرنسي مكلف بالعملية خطة ذكية للتخفيف من غضب المحتجين، قائلا لهم إن سر اعتقاله كان امتناعه وعدم التزامه بوعد إنتاج صابون تازة الشهير بجودته لسيدة فرنسية هي بحاجة ماسة إليه. وأنه حتى ليتم إطلاق صراحه يتوجب إحضار صابون تازة الأصيل. وبعد إحضار أهل تازة كمية منه فاجأهم بمكره ومناوراته أنه يتوفر على وثيقة نادرة تقول إن صابون تازة الأصيل له خمس مواصفات، أولا ما يمنحه من راحة لمستعمله، ثانيا تلميعه لشعر مستعمله، ثالثا علاجه لأمراض مستعمله الجلدية، رابعا مقاومته لتعفنات مستعمله الجلدية، ثم خامسا إطالته لشعر مستعمله بشكل عجيب. وعليه، اشترط هذا الضابط على أهل تازة من المحتجين تجريب ما أتوا به من صابون خلال ثلاثة أيام قبل إطلاق سراح معتقلهم، إلا أنه بعد رجوعهم بعد ثلاثة أيام قدم لهم الضابط سيدة فرنسية قالت إن ما جاؤوا به من صابون ليس صابون تازة الأصيل. وبعدما حملوا مرة أخرى نوعا من أجود صابون محلات المدينة دون جدوى، ذهلوا بخبر وفاة ابن مدينتهم المعتقل وأحد صناع صابون تازة في معتقله بدعوى عدم تقديم صابون تازة الحقيقي. ليتبين لهم أن سبب الوفاة ليس “صابون تازة” بل ما أحيط بإطلاق صراحه من شروط تعجيزية. هكذا مقولة صابون تازة في ذاكرة المدينة والمغرب ولا تزال، تلك التي تروم وصف ما يحدث من صورة مكر وعناوين دسائس وخديعة، وحلول معقدة أمام صعوبة دفاع عن حق وبلوغ إقناع وتبرئة، ومن ثمة ما لا يزال شائعا من عبارة “هادشي خاصنا معاه صابون تازة” أو “ما يفكني معاه حتى صابون تازة”.