الانتساب إلى السلف
بقلم : الشيخ سيدي عبد الغني العمري
إن الانتساب إلى السلف بالمعنى الاصطلاحي الذي نجده عند المتأخرين، هو بدعة لا تدل إلا على الانقطاع عن المدد النبوي، الذي هو روح التدين الأصلي؛ وإلا فإن السؤال: إلامَ سينتسب السلف؟ بما أنه لن تصح إحالتهم على أنفسهم، لو افترضنا وقوعها!.. إن الربانيين الذين هم أعلى طبقة من أهل الدين، لا ينتسبون إلا إلى الله. ولما سأل بنو إسرائيل مريم عليها السلام عن ابنها؛ أجاب عليه السلام عن نفسه وهو في المهد: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} [مريم: 30]. ولكن بما أن الناس ليسوا كلهم على عبودية خالصة، فإنه يجوز لهم الانتساب إلى الدين، خصوصا إن كان ذلك في مقابل أديان باطلة. وقد جاء في هذا المعنى قول الله تعالى: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا} [الحج: 78]. يتضح من هذا، أن الإسلام عبودية عامة، إن دخل فيها الأتباع والمتبوعون (الرسل). وهو لا يخالف نسبة العبودية التي للربانيين، والتي ليست إلا اعتبارا خاصا فيه فحسب. أما الانتساب إلى السلف، فهو يجعل الدين قوميا، أو شبه قومي، يماثل ما صار عليه عند اليهود. وهذه النسبة، لا تصح، من وجوه: 1. لأن التابع، ليس على يقين من كل ما كان عليه السلف؛ خصوصا إن تعلق الأمر بالباطن ومكنونات الصدور. وهذه في الحقيقة، هي عمدة التدين لدى كل فرد وجماعة؛ ما دامت صور العبادات الظاهرة تكاد تكون واحدة. 2. لأن السلف أنفسهم، لم يكن تدينهم متطابقا. وهذا يجعلهم مختلفين فيما بينهم، من حيث الاجتهاد الفقهي، ومن حيث المعارف والاعتقادات. 3. لأن اشتراط الأخذ من الكتاب والسنة بفهم السلف، يعني أن الله لم يُعلّم إلا السلف؛ بينما تعليم الله، لا ينحصر في زمن ولا في قوم بأعيانهم. وهو متاح لكل من حاز شرط التقوى، وإن كان أعجميا. يقول الله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 282]. 4. لأن العلم، أوسع من أن ينحصر في سلف ولا في خلف؛ وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، الذي هو أعلم الخلق، بالاستزادة منه في قوله سبحانه: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114]. من أجل هذا، قد تظهر في المتأخرين علوم، لم يعرفها الأولون، في كل المجالات؛ بما في ذلك علم معاني الوحي. 5. لأن نسبة تدين ما، من المتأخرين، إلى السلف، تعني حتما انقطاعه عن أصله الرباني. وهو بهذا الاعتبار يدخل ضمن الأديان الوضعية ذات الأصل الرباني، كما هو شأن تدين أهل الكتاب؛ ولو من وجه واحد. إن ما ندل عليه من الحفاظ على النسبة الربانية للدين، لا يعني مخالفة السلف بالضرورة؛ لأن التدين الصحيح من كل زمن، يجعل المرء يقع على مواطئ أقدامهم على الطريق، ولا بد. ذلك لأن الطريق المسلوك (الدين من جهة الباطن) هو عينه، والإمام المتبوع فيه، هو ذاته (النبي صلى الله عليه وآله وسلم). أما زعم اتباع واحد أو أكثر من الصحابة على التخصيص، أو واحد من أئمة المذاهب على التعيين، فإنه يخرج بالناس من الإطلاق الذي في الدلالة النبوية على الله، إلى التقيّد بما هو عليه أحد الأتباع من السلف. وهذا لا يصح من حيث المبدأ العام؛ كما لا يصح من حيث مطابقة استعداد التابع المتأخر، للمتبوع من السلف بالضرورة. فيكون هذا الضرب من التدين دعوى من غير بيّنة. ومن يتأمل اليوم حال من يزعمون كونهم على تدين السلف، يجدهم أقل الفِرق علما، وأبعدهم عن السنة بمعناها العام (الظاهر والباطن). وما ذلك إلا لأنهم حرموا أنفسهم التلقي المطلق عن الله ورسوله، وألزموها بما لم يُلزمهم ربهم. ولو أخرجنا معنى التسلف إلى الظاهر، لبان نقصان عقل مدعيه، إذا رأيناه لا يلبس إلا كلباس السلف، ولا يأكل إلا كأكلهم، ولا يتكلم إلا ككلامهم!.. ولا نشك عندئذ أن كل من سيراه، سيظنه ممثلا (محاكيا) يقوم بدور ما في أحد الأفلام التاريخية. فهكذا التدين المتسلف، لا يمكن أن يكون تدينا حيا، إلا فيما ندر؛ ويبقى في أغلبه محاكاة لتدين قوم مضوا، لا يدري المقلِّد فيه، كم وافق من تدين المقلَّد قط!.. يعجب المرء كثيرا عندما يسمع المتسلفة يزعمون أنهم وحدهم على السنة من دون الناس، مع أن السنة هي أن يكون العبد تابعا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. ومن كان تابعا له، فلا بد أن يشهد لصحة اتباعه تحقق الأخذ عنه؛ وإلا فكيف يكون المرء تابعا، من غير علامة من المتبوع؟!.. فإن قال قائل: يكفي في هذا اتباع الأخبار!.. قلنا: إن الأخبار ليست مقطوعة عن صاحبها، حتى يبقى العبد من غير علامة!.. وإن هذا الأصل لو تنبه إليه الناس، لسهل عليهم تمييز التدين الأصلي من التدين الفرعي بسهولة؛ ولكن الأهواء والعصبيات قد طغت حتى على بدهيات العقول!..