إمعان نظر -9-
حقيقة التصوف
بقلم : الشيخ سيدي عبد الغني العمري
يكثر الكلام عن التصوف في كل مناسبة، ومع ذلك لم نسمع من يدل على حقيقته. ونحن هنا، لن نعيد ما قيل في تعريفه قديما؛ لأننا نرى كل التعريفات جزئية تتعلق إما بمرتبة من مراتبه، وإما بوجه من وجوهه. والحقيقة هي أن التصوف في أصله تحقق بالدين نفسه، في جميع مراتبه.
والتحقق بالدين، هو الخروج من التدين الفرعي (القشري)، إلى التدين الأصلي. وهذا لا يكون إلا فرديا، باتباع السنة ظاهرا وباطنا. ولم نعن بالمراتب المتحقَّق بها، إلا الإسلام والإيمان والإحسان. وعلى هذا، فإن تعريف التصوف بكونه "مقام الإحسان"، هو تعريف جزئي، لا نشك أنه صدر عمن كان من أهل الإحسان، أو من المتطلعين إلى الإحسان من أهل الإيمان، في زمانه. وأما من يفرق بين التصوف "السني" بحسب زعمه، والتصوف "الفلسفي"، فإنما يكون نظره إلى ثمار التصوف، لا إلى حقيقته.
والتصوف بالمعنى الذي ذكرنا، لن يكون إلا التدين الصحيح، من غير زيادة ولا نقصان. وإن كان الأمر هكذا، فإن تسمية "التصوف" لن تنطبق إلا على "الإسلام" من حيث ما هو دين. والميل إلى التسمي بهذا الاسم، مع كون المسمى هو الدين، لم يدْعُ إليه، إلا كون أهل التدين الفرعي، على الإسلام بالمعنى الواسع، الذي يوافق المرتبة الأولى على الأقل. ونحن لا نرى الإصرار على اسم "التصوف" من قِبل الأوّلين، إلا تأدبا مع عموم المسلمين، وعدمَ قدح في نسبتهم الدينية؛ منعا لتكفيرهم من الجاهلين المتعصبين. ولقد كان هذا منهم (من الأئمة)، فعلا حميدا، وخلقا مجيدا؛ ليته عم كل الفِرق والمذاهب.
وطبقا لما مر، فإن للتصوف أربع مراتب، لا خامس لها:
1. تصوف مرتبة الإسلام: وهو الإتيان بالأركان المعلومة، مع الحرص على سلامة الصدر، وحسن الخلق.
2. تصوف مرتبة الإيمان: وهو ما يذوق أصحابه الأحوال والمقامات المعلومة، التي تدور عليها جل تصانيف الأولين، كإحياء أبي حامد الغزالي رضي الله عنه.
3. تصوف مرتبة الإحسان: وهو لأهل المراقبة والمشاهدة. وهذا التصوف هو الذي يدور حول المعرفة العامة، التي يتكلم فيها جل الشيوخ.
4. تصوف الورثة: وهو للمتحققين، الذين يظن من لا علم له أنهم فلاسفة، إن هم أغمضوا في العبارة. وعلى رأس هؤلاء الإمام ابن العربي رضي الله عنه.
فعلى من يتكلم في التصوف، أن يعلم عن أي مرتبة يتكلم؛ وعن أي مناطاته يدور الكلام؛ لأنه من غير هذا الضبط، ستتضارب الأقوال فيه، وتُتنازع الأحقية، كما هو واقع منذ القرون الأولى وإلى الآن.
أما التصوف الشائع بين الناس، فإن أغلبه ليس منه. ولقد نشأ هذا الخلط، بسبب اعتقاد العوام في التصوف وأهله؛ حتى ظن الناظر إليهم أنهم على مذهبهم، لجهله بما ذكرنا سابقا من تفاصيل. ولن نجانب الحق إن قلنا إن كثيرا من التصوف في الأزمنة المتأخرة، قد صار متاجرة بالدين، وتحايلا على الناس لغرض انتهاب أموالهم. وهذا الصنف من التصوف، منصور من قِبل جهات مختلفة، لقبوله التوظيف في الأغراض السياسية، وقبول أهله لشراء الذمم من طرف المغرضين من الداخل ومن الخارج. ونحن إذ ندل على صحيح التصوف، فإننا نسعى إلى تخليص الأمة من هذا الصنف المضر بالإسلام وبالمسلمين.
وإن أهم ما يميز التصوف (التدين الأصلي)، لَهُوَ عدم إغناء الدراسة فيه عن السلوك ومعاناة الطريق. ولقد جهل الكثيرون هذا الأصل، فظنوا أن المعاني التي ينبني عليها التصوف، يمكن أن تُلقّن وتُفهم على طريقة العلوم النظرية؛ وهذا محال.
وبسبب كون التصوف منوطا في شطره بالغيب، فإنه مجال يُتلاعب فيه مِن قِبل مَن يمتطي الخرافة، ويمتهن الدجل؛ ظنا منهم أنْ لا معايير تضبطه وتحدد مفرداته. والحقيقة على عكس ذلك، يكون التصوف فيها ذا معايير بالغةٍ في الدقة؛ إلى الحد الذي لا يتقنها معه، إلا أفراد في العالم كله. ولهذا السبب كان جل من يُعرفون بالتصوف من كل زمان، لا يبلغون أن يكونوا مريدين (تلاميذ) فيه. وأما أئمته حقيقة، فيبقون مجهولين في الغالب، في أزمنتهم على الخصوص؛ وإن أُقرّ لهم بالإمامة فيما بعد. وهذه سنة الله في هذه الطائفة، من أول ظهور التصوف، وامتيازه عن التدين العام الفرعي.
وإذا كان التصوف قد ظهر، من أجل العودة بالتدين من الانحراف العام، إلى الأصل المتيح للسلوك والترقي، فإنه (أي التصوف) مع انحرافه هو أيضا، قد أصبح انحرافا ثانيا للتدين في تاريخ الأمة؛ لا نرى من إمكانٍ لتقويمه، إلا بالرجوع إلى الأصل الأول.