هل يَسقط وعد “دونالد” ويُسقط ما بناه وعد “بلفور”؟
قلم : عبد العزيز غياتي
“اِذهب أنت وربك فقاتلا إنّا هاهنا قاعدون”، لم يقلها شعب غزة، ولا شعب فلسطين عموما قالها، ولكن قال للمقاومة اذهبوا قاوموا إنّا معكم صامدون ضد همجية المحتل، متشبثون بأرضنا في وجه رياح التهجير قابضون على الجمر في يمّ التدمير والتجويع والإبادة الجماعية، نحن أنتم وأنتم نحن ومعنا قدر الله وقدرته وقوة الحق والإيمان، إنّا معكم مضحون بالنفس والمال وبكل مقومات الاستقرار من سكن وطعام وشراب وأمن على الحياة والصحة والمستقبل، نحن معكم إلى آخر نبض في هذه الأجسام التي أنهكها الجوع والمرض والجراح والتشرد، وطاردتها نار المقاتلات والمسيرات والمصفحات والجرافات في كل الاتجاهات.
قدر المقاومة.
قدر فلسطين أن تقاوم الاستعمار وهو قدر كل الشعوب العربية ذات حين مع اختلاف بسيط هو أنّ فلسطين سلّمها المستعمر الإنجليزي إلى محتل جديد، إلى الصهيونية العالمية كوطن قومي لتجميع يهود العالم وفاء لوعد بلفور، لتخليص أوروبا من إزعاجهم وتثبيت مخلب قط في قلب الشرق الأوسط، أما أغلب باقي الدول العربية المقسمة فقد تسلمتها أنظمة حافظت على ولائها لمستعمر الأمس مقابل مغريات المال والجاه والسلطة، وتحت طائلة العقاب بهدم الاستقرار الهش، أو باستبدال الحاكم بحاكم آخر أكثر ولاء سواء مقنّع بصناديق الاقتراع أو بتدبير أحد ألوان الإنقلاب.
وإذ ظلت جذوة المقاومة ملتهبة وروح النضال والجهاد حاضرة في المجتمع الفلسطيني فقد استكان المواطن العربي إلى استقرار خداع وإلى استقلال ثبت زيفه في عدة محطات أو على الأقل تكشفت عورته عبر الزمن، وأخشى أن يعود التاريخ ليعيد نفسه فيُقدِم مستعمر الأمس وبما يملك من قوة اقتصادية وعسكرية ودهاء سياسي على تسليم ما تبقى من القدس وفلسطين والعالم العربي أو كل جزء منه على حدة إلى الصهاينة في إطار وعد “دونالد” لتحقيق حلم (إسرائيل) الكبرى مقابل اقتسام ما تبقى من ثروات، أو مقابل مآرب أخرى كغزة مثلا التي نام واستيقظ فخامته وقد رأى أنه من حقّه الطموح إلى تحويلها من مساحة جغرافية يسكنها جزء من الشعب الفلسطيني عمّرها وبناها منذ غابر الأزمان إلى منتجع سياحي، بعد هدمها وإخلائها من سكانها وإعادة بنائها بما يليق به كما صرح بذلك أمام الإعلام حين ساوم الغزيين و وعدهم بحياة أفضل خارج غزة.
الحلم الأخير.
لتحقيق ذلك الحلم يمارس الكيان الصهيوني منذ زمن وبوضوح سياسة التسلل السلس إلى ثقافة ووعي المجتمع العربي والتسلل إلى سلاسل الإنتاج الفلاحي والصناعي والتعليمي وإلى شبكة التجارة العالمية، كما يمارس في الخفاء التسلل إلى مراكز أكثر استراتيجية، ويبدو أن طوفان الأقصى أدى به إلى إلى محاولة حرق المراحل فأصبح يضع أهداف جديدة وينسخها بأهداف أخرى، ويجرب خطط ويعيد النظر في خطط أخرى، وذلك بين وواضح في سياسته تجاه دول الطوق ودول أخرى بعيدة عنه جغرافيا.
دول الطوق الأدنى.
يتدخل الاحتلال في أعماق سوريا تحت أعين إدارة “دونالد” التي تفاوض وتناقش وتحاور النظام السوري الجديد، والهدف المؤكد هو فرض أمر واقع يتم بعد ذلك التفاوض من أجل إدخال بعض الرتوش عليه ومن تمّ الاتفاق على السماح باقتطاع جزء من سوريا للتوسع الجغرافي والعسكري والاستراتيجي، وغدا أمر واقع جديد ومفاوضات جديدة وقضم مساحات جديدة، ويضرب لبنان في أي وقت شاء على الرغم من اتفاق مبرم معه كان تحت وصاية “دونالد” بعد انتهاء الحرب مع حزب الله، لتجريب الأسلحة وقياس نسبة الغضب وردّ الفعل في الجانب اللبناني ودفعه إلى التطبيع النفسي والاجتماعي والسياسي مع حالة الاعتداء المزمن ومع مشروعيته، ويبدو أن المطلب التالي بعد أن يتحقّق نزع سلاح الحزب هو محاكمة كل أعضائه والمتعاطفين معه ونفيهم أو سجنهم، أما الأردن فأمرها في اعتقاده أهون من أن يضرب لها أيّ حساب ولن يتطلب احتلالها أكثر من بضع ساعات، والاحتفاظ بها مؤقتا كجار (مسالم) ووصي على الأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية في مدينة القدس يسهّل صمته ويسرّع سياسة الضمّ والتهويد للضفة والقدس عموما وللمقدسات بالخصوص.
قوى الإزعاج القادم من بعيد.
لم يكن نصيب دول الإزعاج المسلح كاليمن، إيران والعراق من مطبخ المحتل غير التدمير والإرهاب الممنهج بهدف تحييدها عن الصراع وتحجيم التهديد الذي يقض مضجعه من جنبها، والقضاء على أي خطر خفيّ أو محتمل على المدى القريب أو البعيد سواء كان مبلغه سماء فلسطين أو غرفة نوم الرئيس أو تكنولوجيا سلاح يتطور في الأنفاق، أما الإزعاج السلمي القادم من الخليج أو من المغرب العربي فنصيبه التحذير والترهيب والتثبيط كإحراق إحدى سفن فك الحصار المتجهة إلى غزة وهي لاتزال راسية في الميناء بتونس بمسيرات استباحت الفضاء العربي وأصبح ملكا لها، وضرب مقر إقامة الوفد الذي يفاوض حول ورقة “دونالد” في الدوحة عاصمة قطر الحليف الاستراتيجي لإدارته والذي له فيها قاعدة عسكرية، وتلك ضربة واحدة لعصفورين؛ الضغط على حماس للاستسلام بالدلالة على أنها ليست آمنة من الاغتيال إلا في سجن المحتل أو أي سجن آخر، ومن جهة أخرى توجيه إنذار ثاني إلى قناة الجزيرة بعد الاستهداف المستمر لمراسليها في المنطقة بالاغتيال لأنها تنقل مباشرة تفاصيل حرب الإبادة في غزة، والتهويد في القدس والضفة إلى العالم، الأمر الذي ترتب عنه العزلة والكراهية التي يراكمها الكيان على مدى سنتين في وسط من كانوا بالأمس يتعاطفون معه.
السقوط.
على الرغم من الحرب الشعواء التي يتناوب الخليلان على إشعالها هنا وهناك والحمم التي ألقيا بها في القطاع، وسياسة الحصار والتجويع والإبادة والهدم لجميع مقومات الحياة، فإن غزة، القطعة الأول من قطع الدومينو لاتزال يقاوم رجالها وحدهم نيابة عن البقية، ولازال هذا الشعب الفريد يشكل العقبة الكأداء أمام طموح المختل وأحلام المحتل، ولإن سقطت لا قدّر الله فسوف تتداعى البقية إلى السقوط تباعا، ولا أشك أن طموح المقاومة يتعدى عدم السقوط إلى إسقاط ما بناه وعد بلفور المشؤوم قبل أكثر من قرن.