صدى الوعد الأخير…قلم : حسن بلعربي
قبل أن يقفل الخطّ، تناهى إلى سمع ميمون عبارة ظلّ صدى كلماتها يرنّ في أذنه لمدة عامين كاملين: “سأتّصل بك قريبًا، استعد يا صديقي! فتعيينك في إحدى المؤسّسات الأممية، ممثّلًا للوطن، أمر حتمي لا محالة.”
كانت تلك آخر كلمات تفوه بها صديق طفولته عُمَر، والذي غدا حديث الساعة بعد تنصيبه وزيرًا في الحكومة الجديدة.
ومنذ ذلك اليوم، لم يتوصل ميمون بأيّة مكالمة، لا من صديقه الوزير ولا من ديوانه.
واكتفى بمتابعة أخباره عبر الصحف والنشرات المتلفزة المسائية، ولطالما راوده هاجس كان يدفعه بين الفينة والأخرى لرفع سماعة الهاتف ليتأكد أنّ الخط ما زال مشغلا، وأنّ سكون الهاتف ليس عطلاً فنّيًا.
كل من ميمون وعمر نزحا من القرية نفسها إلى المدينة قبل ثلاثين عامًا، كان كل واحد منهما يحمل معه حقيبة ضمت أحلاما بسيطة ورغبة واحدة وهي أن يدرسا القانون. جمعهما معا السكن في الحي الجامعي نفسه، وتقاسما في وقت لاحق شقّة متواضعة بعد تخرجهما، قبل ان يعملا معًا في الوزارة ذاتها، كانت العلاقة التي تجمعهما شبيهة بعلاقة الأخ بأخيه، فقد وحد بينهما الفقر والصبر والخبز اليابس والحلم بالوظيفة.
فلطالما استعار عمر، أيّام الجامعة، من صديقه معطفه في الليالي الباردة، واقترض منه مبالغا كان لا يبخل بها صديقه عليه وهو يعلم تمام العلم أنه لن يرده، بل وحتى البذلة التي ارتداها لاجتياز مباراة التوظيف كانت ملكًا لميمون، ومع ذلك لم يطالب باستردادها يومًا، فقد كان يعلم أن عمر ليس بخيلاً، لكن الحرمان أثخن فيه.
ثم شاءت الأقدار أن يعملا معا في المصلحة نفسها، قبل أن يختار عمر الانضمام إلى الحزب الحاكم والانخراط في صفوفه، رافعا صوته عاليًا أثناء الاجتماعات والمناسبات، هاتفا باسم “الوطن” تارة ومدافعا شرسا عن “الصالح العام” تارة، في حين قنع ميمون بأن يكون موظفًا صادقًا يؤدي واجبه في صمت وتفاني، إذ كان في غالب الأحيان يبقى ملازما مكتبه إلى ساعات متأخرة في المساء، لكي ينهي تقارير زميله التي لم يكتبها، أو يصحّح نصوصًا يفترض أن يكون عمر قد أنهى إعدادها. ورغم كل ذلك، لم يتذمّر يومًا، بل كان يرى في نجاح صديقه نجاحًا له.
ومع مرور السنين، تغير مجرى رياح الساحة السياسية، فأفلت شعبية الحزب الحاكم، حينها سارع عمر لتغيير لونه السياسي وانخرط دون تردد في صفوق حزب معارض صاعد، فقد كان يلم بكل صغيرة وكبيرة عن خصومه وبعرفهم حق المعرفة، كما أنه كان مراهنا جيدا يجيد حسابات الربح والخسارة، فلا عجب إذا من أن يتسلق المناصب في حزبه الجديد ويتقدم صفوفه، خصوصًا بعد زواجه من ابنة الكاتب العام للحزب.
ولم تمر إلا أشهر قليلة حتى فاز الحزب بالانتخابات، وتحوّل عمر من مجرد موظف إلى وزير في الوزارة التي بدأ فيها مساره المهني كإطار بسيطًا.
ومنذ ذلك اليوم، اتسعت هوة المسافة بين الصديقين وتباعدا أكثر من أي وقت مضى.
تفهّم ميمون انشغال صديقه عنه في البداية، فالمناصب تُثقِل كاهل أصحابها، لكنه بعد انصرام عامين كاملين من الصمت، بدأ الشك يدب إليه، أن المكالمة الهاتفية الذي وعده بها عمر لن ترى النور أبدا، رغم ذلك، لم يحمل أي ضغينة في قلبه تجاه صديقه القديم.
ومرت الأيام، وذات صباح، قرأ ميمون خبر وفاة صهر صديقه الوزير، فقرر أن يتوجه لتقديم واجي العزاء، كان لقاءه بصديق طفولته بعد طول غياب ثقيلا وصامتًا، تقدم خلاله السيد الوزير باعتذارٍ خجول فالمنصب الذي وعده به ذهب لقريب رئيس الحكومة، ولم يكن بوسعه الاعتراض على ذلك.
غادر ميمون المأتم بعد أن جدد عمر وعده مرة أخرى مقسما بأن “يعوّضه قريبًا”، كان جواب ميمون عبارة عن ابتسامة تخللتها جملة واحدة:
“لا بأس يا صديقي، ما زال في العمر متّسع.”
ومرّت الأيام والشهور، وأخلفت الوعود كما انقطعت المكالمات. حتى جاء ذلك المساء الذي رنّ فيه الهاتف أخيرًا. رفع ميمون السماعة مترددًا، فإذا بالصوت الذي انتظره طويلًا يخاطبه بكلمات لم يتوقع سماعها:
“أما زلت قويًّا في لعبة الدومينو؟”
تسمر في مكانه للحظة، وهو لا يكاد يدرك أهو صوت قادم من الماضي أم هو سخرية الحاضر، ثم أجابه ضاحكًا:
“ما زالت قوتي على حالها كسالف عهدها يا معالي الوزير! ”
قهقه عمر ضاحكا، وهو يدعوه إلى الالتحاق به في الغد في المقهى التي كانا يجلسان فيها أيّام دراستهما الجامعية، “لاسترجاع الذكريات… والحديث عن المستقبل.”
لم يغمض لميمون جفن في تلك الليلة، وفي الغد، خرج وقبل الموعد بساعتين، على غير عادته، قام باقتناء جريدة وعلبة سجائر، وجلس في المقهى التي تغيّر فيها كل شيء إلا الطاولات المعدنية القديمة، طلب قهوته، وبدأ يتصفح الجريدة.
شد انتباهه عنوانٌ عريض يتحدث عن تعديلٍ وزاري وشيك، وفي زاوية الأخبار الاجتماعية قرأ:
“زفاف ابنة الكاتب العام الجديد للحزب الحاكم على أحد القيادات الشابة الصاعدة”
وكان ذلك الشاب أحد منافسي صديقه الوزير.
ابتسم في صمت، وهمس:
“الرياح لا تهبّ دائمًا كما تشتهي سفن سيدي الوزير، فتبا للمنافقين والانتهازيين، ولمن يفرشون الأرض وردًا لمن يدوسهم غدًا”!
دفع ثمن القهوة، وغادر المقهى دون أن ينتظر أحدًا.
ولمّا وصل إلى المنزل، بادر إلى نزع فيشة الهاتف، ثم استلقى على أريكته، وأغمض عينيه، وقرر أنه لن ينتظر رنين الهاتف بعد اليوم، فلا حاجة له بخيبة جديدة.