المنعطف اللزج…بقلم: الحسن بلعربي
ترعرع “ميمون” في قرية من قرى الريف العميقة، وبعد أن حفظ ما تيسّر من القرآن الكريم وتعلّم القراءة والكتابة، انتقل إلى المدينة لمتابعة دراسته، غير أن الأقدار حالت بينه وبين مسيرته التعليمية.
فحين توفي والده، عاد إلى قريته لرعاية والدته ويشرف عوض والده المتوفي رعاية الأبقار، مصدر رزق العائلة الوحيد.
كان ميمون الابن الذكر الوحيد بين ثلاث أخواتٍ تزوّجن وهاجرن مع أزواجهنّ إلى خارج البلاد، ولم يتسن أن يفعل مثل أقرانه الذين شدّوا الرحال إلى أوروبا، إذ لم يهن عليه أن يترك أمّه وحيدة.
ومع توالي الأيام والسنين، أخذ يتأقلم مع حياته ووضعيته الجديدة، إذ بعد كل يومٍ طويل من العمل الشاق والمتعب في الحقل ورعي الأبقار، كان يتوجّه إلى مقهى القرية، حيث يجتمع مع أصدقائه وجيرانه، لاحتساء الشاي أو القهوة، ولعب الورق في بعض الأحيان، ويتجاذب أطراف الحديث معهم حتى يحين أذان المغرب. وبعد أداء الصلاة في المسجد، يرجع ميمون إلى بيته حيث تنتظره والدته التي عادة ما تأوي إلى فراشها مباشرة بعد صلاة العشاء، إذ كان يتفرغ للبقاء معها ما بين صلاتي المغرب والعشاء محدثا إياها عن الزرع والبقر، وقاصا على مسامعها أخبار الناس في القرية.
كانت قريتهم منعزلة عن العالم، لا شبكة تغطية فيها، ولا إنترنت، تسير الحياة فيها ببطءٍ جميل، ولا يعترها قلقٍ أو استعجال، فكل ما يصل من أخبار المهاجرين كان عبر الرسائل الورقية المكتوبة أو الأشرطة الصوتية التي اعتادوا التوصل بها في دكاكين القرية، ولو حدث وأن اضطرّ أحدهم لإجراء مكالمةٍ هاتفية، كان يجب عليه أن يقصد مكتب البريد في المدينة، يدفع مبلغا غير يسير من المال مقابل جملة أو جملتين عبر الهاتف.
إلى أن جاء اليوم الذي نصبت فيه شركة الاتصالات أبراجها في أعالي القرية، منذ تلك اللحظة تغيّر كل شيء. فقد اقتنى الجميع هواتف عصرية ولوحات الكترونية، وانفتحوا على عالمٍ لم يسبروا أغواره ولا عرفوه من قبل، فانبهروا بقدرتهم على التواصل اليومي مع ذويهم في الخارج، وبسرعة الأخبار التي غدت تتدفق بلا توقف، كما أصبحت الأفراح والمآتم تُبثّ مباشرة عبر تطبيقات “الواتساب” و”الفيسبوك”، وأمست القرية التي كانت تنعم بالهدوء والسكينة، مرتعا للضجيج المستمر.
ومع مرور الوقت، بدأت الخلافات تدبّ بين الجيران والأقارب، فقلّ التواصل الواقعي، وتناسلت المكالمات والرسائل بشكل مستمر لا يكاد تنتهي، فلطالما احترقت وجبات، وفضحت أسرار، وكشف غطاء الستر عما كان ينبغي أن يبقى طيّ الكتمان.
وبدوره تغيّر ميمون، فصار مهملًا في عمله، شاردًا طوال الوقت، وهو ما شد انتباه والدته التي لاحظت أنّه لم يعد يكلّمها كما كان في السابق، وأنّ هاتفه صار جليسه الدائم.
وما لبث أن نميت إليه الأخبار السيئة من كل صوب: فهذا ابن خالته في هولندا دائم الشكوى من زواجه المتصدّع، وهؤلاء أخواته يتأففن من مشاكلهن في الغربة، وتلك عمّته بمكناس طريحة الفراش بسبب المرض، وفوق هذا كله، ينهال عليه سيل من رسائل “الأدعية”، التي تتوعده بالويل والثبور إن هو لم يُرسلها ويتقاسمها مع عشرين صديقًا.
أصبح ميمون منهكا، وقد ضاقت روحه، وجفّ الحقل، وهزلت الأبقار، وحزنت أمّه على الحال التي صار إليها.
وذات صباح، دخل الحظيرة، فاستوقفه منظر إحدى أبقاره جاثمةً بلا حركة، يتدلّى لسانها خارج فمها. وقف ميمون أمام هذا المنظر مشدوها، وقد شعر كأنّها تمثّل حياته التي فقدت حيويتها وكنهها.
تمكن منه الحنق، ولعن اليوم الذي اشترى فيه الهاتف، وبحركة سريعة رفعه ورماه بعيدًا ليتناثر أجزاء محطمة.
وفي السوق الأسبوعي، مرّ بدكان أحد أقربائه هناك، وهو الدكان الذي اعتاد استخدامه عنوانا بريديا ليتوصل عبره بالرسائل، فتسلّم فيه طردا أرسله إليه ابن خالته من هولندا.
فتح صندوق الطرد، ليد بداخله هاتفا جديدا ولوحة إلكترونية ورسالة قصيرة تقول:
“عزيزي ميمون،
هذه هديّتي لك.
اسبح في الأزرق كما تشاء،
لكن احرص على ثيابك…
حتى لا تضيع أو تُسرق منك.”
تجمّد ميمون وهو يقرأها، شعر بأنّ الرسالة لم تكن نكتة، بل تحذيرًا من الغرق في ذلك البحر الأزرق الذي فقد فيه نفسه من قبل.