"مجرزة" مشروع بلقصِيرِي لم تكشف بعدُ كلَّ الأسرار. حينَ أقدمَ شرطيٌّ في العاشر من مارس المنصرم، على قتلِ ثلاثة من زملائه، بمسدسه الوظيفِي في مقر مفوضيَّة الشرطة في مشروع بلقصيري، فيمَا كانَ من المرجحِ أن يوقع المزيد من الضحاياً لو لم يتم ضبطه، او أنهُ كانَ مجيداً للتصويب. يقولُ أحدُ من عايشُوا الحادثَة.
المقدمَ حسن البلوطِي، رجلٌ خمسينِي، وأبٌ لأربعة أطفال، سبقَ أن خدمَ في عدة مدن، قبلَ أن يحطَّ في مشروع بلقصيري، المعروفة كمدينة صغيرة وهادئة دون حكاياتٍ كبرى. يقولُ زملاؤهُ إنهُ كانَ رجلاً ذَا مراسٍ صعبة، أنهكته الدُّيون، وقدْ جرَّ وراءَهُ ملفاً ثقيلا، انتهى بدفعه إلى ارتكابِ ما ارتكب..
إلَى حدِّ اللحظة ، لا تزالُ الأسبابُ الثَّاويَة وراءَ إقدام البلوطي على قتل زملائه مجهولةً، لكنَّ العناصر الأُولَى للتحقيق كشفت عن وجود خلاف لهُ معَ رئيس المفوضية، الذِي أعفيَ من مهامه منذُ الحادثة. وذلكَ بسببِ منعه، وفق ما وردَ في الاعترافات، للبلوطِي من العمل فِي حاجزٍ طرقي، يعرفُ بدرهِ أموالاً كثيرةً فِي المنطقة.
فِي الشهاداتِ التِي أدلَى بها، أشارَ البلوطِي إلى الفساد المستشرِي بين صفوف الشرطة المحلية. وذهبَ إلى حد المطالبة بفتح تحقيق فِي أملاك المسؤولين الأمنيين في منطقة الغرب، الذِين اتهمهم بالتواطؤِ معَ مع تجار المخدرات والمهربين. ممَا جعلَ قضية البلُّوطِي اليوم تربكُ المؤسسة الأمنيةَّ برمتها فِي المغرب.
حالةُ البلُّوطِي في الواقع ليست منفردة، فمنذُ 2010، أقدمَ ستةُ شرطيين علَى الانتحار باستخدامِ سلاحهم الوظيفي، كمَا أنَّ 46 شرطياً انتحرُوا بمختلف المناطق المغربيَّة، منذُ عامِ 2000. بحيثث سجلَتْ في سنة 2001 لوحدِهَا سبعةُ انتحارات، بينمَا سُجِّلَتْ ستُّ حالاتِ انتحارِ خلالَ 2007.
عقبَ الحوادثِ التي تحصلُ بين الفينة والأخرى، تفتحُ الإدارة العَامَّةُ للأمن الوطني تحقيقات لا تقدمُ نتائجها للعموم، ويتمُّ الاقتصارُ فيهَا على عزوِ الانتحار إلَى "أسباب شخصيَّة"، لتغلقَ القضيَّة. لكن ماذا لو أنَّ المسألةَ كانتْ أكثرَ خطورةً وأنَّ جسمَ الشرطة بالمغرب يُعانِي في صمتٍ؟ وأنَّ عناصرهُ تعانِي من أسقام تجعلها أكثر هشاشة وضعفاً؟ من الناحيَّة المبدئيَّة، لا ينبغِي أن نستبعدَ هاته الفرضيَّة، حسبَ الباحثِ في الأمنِ العمومي، إدريس بلماهِي، لأنَّ رجال الشرطة في المغرب يعيشون إجهادا كبيرا، بسبب النقص في الموارد والإمكانيَّات. كمَا أنَّ جسمَ الشرطة لا حقَّ لهُ في تشكيل نقابة، ولا هوَ يمتلكُ مؤسسة تدافعُ عن حقوقهِ، أو ترعَى الوساطة بين المسؤولين ومن يقعونَ تحتَ إمرتهم.
"لا يمكننا أن نتحدث عن ظاهرة استناداً إلى بعض الحالات، التي نأخذها من جانبنا في الحسبان. ففي كل مرة تفتحُ الإدارة العامة للأمن الوطني تحقيقاً، يتمُّ الخلوص فيه إلى أسباب مهنية أو شخصية. نظراً لحجم الضجة الإعلامية التي تثارُ في أعقاب الإقدام على استخدام سلاح ناري. بيدَ أنَّ ذلكَ لا يعنِي أنَّ كل شيء مثالي وعلى ما يرام، بحيث أننا نشغل باستمرار لتحسين الوضع على أكثر من صعيدٍ"، يقول محمد السيد، عن المصلحة الولائية للشرطة القضائية بالدار البيضاء.
« ومن بين الخطوات التِي يمكن اقتراحها لأجل تفادِي تلك الحوادث؛ قيامُ المديريَّة العامة للأمن الوطنِي بتجريدِ بعض العناصر، المعروفة بعدم الاستقرار، من السلاح، فنحنُ نتابعُ عناصرنَا بشكل دائم. ونحاولُ حلَّ المشكلِ حينَ يكون داخلياً، بحيث نستجيبُ سنوياً لآلاف طلبات الانتقال. أمَّا حينَ يتعلقُ الأمر بإدمان عنصر من العناصر للكحول وتعنيفه لزوجته، بإمكاننا أن نتخذَ قراراً بتجريده من السلاح حتَّى نتفادى مفاجأة سيئة، ثمَّ نضمنُ بعدَ ذلكَ متابعةً نفسيَّة للعنصر"، يردفُ السيد. الذِي يقرُّ بأنهُ من غير الممكن، جعلُ الأخطار مستحيلة الحدوث بالمرة.
فِي مارس 2010، بدَا وضعُ الشرطة ملحاً إلى درجة تدخل معها الملكُ شخصيا. عبرَ تبني وضع جديد للشرطة في أحد المجالس الوزارية. بحيث تمَّ رفع رواتبِ رجال الشرطة بموجب النص الجديد لتبلغَ 4000 درهم، لرجل الأمن، و33.000 درهماً لوالِي الأمن الذِي لم يكن راتبه يتجاوزُ 17.000 درهم. وفِي المناسبة ذاتها، أعلنَ الملك محمد السادس عن خلقِ مؤسسة الأعمال الاجتماعيَّة للشرطة.
أمَّا رئيس الحكومة، فيعمدُ في عدة خرجات إعلامية له، إلَى الدفاع عن رجال بوشعيب أرميل، وذلكَ ليطردَ عنهم تهمةَ المساس بحقوق الإنسان، بيدَ أنَّ ذلكَ يبقَى غيرَ كافٍ.
العالمُ النفساني، المختص في الأمن العمومي، رشيد مناصفِي، يقول إنهُ بالنظر إلى تطور الجريمة وبروز مخاطر جديدة مرتبطة بالأمن العمومي، فإنهُ من المرجح أن يزدادَ الوضعُ سوءً في حال لم يقم المسؤولون بمعالجة جوهر المشكلةـ وإن هم لم يشتغلُوا على الخلل الوظيفِي الحقيقي للشرطة".
ويحكِي مناصفي عن شرطي فقد والدهُ حين كان طفلا، وأقدم عل محاولتَيْ انتحار تمَّ إفشالهما، بعد خلافٍ له مع مسؤوليه وتنقيله بشكل تعسفي، إلى انتهى به الأمر بـالإدمان على الحكول وإيقافِ علاجه من داء السكري، قبلَ أن يدفعَ حياته ثمناً في الأخير.
المشكل الأبرز الذي تعاني منه الشرطة في المغرب هو النقص على مستوَى الموارد، إذ لا يوجد بالمغرب إلاَّ 55.000 شرطي. علماً انَّ ثلثي هذا العدد يكفيان بالكاد لتأمين مدينة كالدار البيضاء. يقول مسؤول سابق بالمديريَّة العامة للأمن الوطني. وعلَى إثرِ ذلكَ النقص يَتمُّ اللجوء إلى الساعات الإضافيَّة، التي أصبحت قاعدة، كما أنَّ رجل الشرطة قد يتلقَّى اتصالاً هاتفياً فِي أي وقت من الأوقات. وهوَ السببُ أنهى علاقات كثيرة للزملاء، يقول المتحدث بالطلاق، بسبب إيقاع العمل والاتصالات التي تأتي في آخر لحظة، وكذَا إلغاء العطل.
في اليوم الذِي أعقبَ هجمات السادس عشر من ماي 2003، اكتشفَ المغاربة بذعر أنَّ محاور كاملة من المدينة ظلت لمدةٍ دون مراقبة من طرف الشرطة. إما بسبب مسألة الوقود أو السيارات المتوفرة. بحيث أنّ سيارات الشرطة نادرا ما تبلغُ الأحياء البعيدة والصعبة كسيدي مومن وكاريان طوما.
أمَّا فِي 2005، فقد خلق عمدة مدينة فاسن حميد شباط، الجدل حين وظفَ عناصر من الأمن الخاص لتأمين المدينة القديمة. حيث دأبت العصابات على سرقة التجار بشكل اعتيادِي. شباط ذهبَ إلى حد إمداد ولاية الشرطة بسيارات جديدة، على حساب مجلس المدينة. إلا أنَّ البادرة الأُولَى من نوعها لم تسلم من انتقادات قضاة المجلس الأعلى للحسابات، الذين أكدُوا أنَّ الأمن لا يندرجُ ضمن صلاحيات العمدة. مما لمْ تذهب معهُ فكرة شباط بعيدا، بعدمَا طلبَ من العمدة أن يسحبَ الحراس الخاصين من المدينة القيدمة، بعدمَا كانَ قد وعدَ في وقت سابق بتوفير الأمن لتجارها المذعورين من أعمال السرقة.
النقص الكبير في موارد الشرطة بالمغرب، تزدادُ حدته ويتمظهرُ في بعض المناسبات، كالمهرجانات الكبرى، ومباريات كرة القدم، والاحتجاجات الاجتماعية والنقابية، بحيث يقول شرطي شاب إنَّ تلك المناسبات تعيشُ معهَا عناصر الشرطة لحظات عصيبة بسبب شروط التغذية والنوم والبعد عن العائلة. علاوةً على النقص في العدد، بما بدفعُ رجلَ الشرطي إلى الاجتهادَ كيْ يؤمنَ أكبر عدد ممكن من النقاط في المدينَة. إلا أننا وبالرغم من ذلك، ننجحُ في محاربة الجريمة، رغم أننا لا نتوفر إلا على ثلث عدد رجال الشرطة الذين تتوفر عليهم دور مجاورة، ساكنتها أقل بمرتين من حيث العدد ساكنة المغرب" يقول مصدرٌ من الإدارة العامة للأمن الوطنِي.
وإِلى مشكل الموارد ينضافُ مشكل النقل، فحتى وإن كانَ من حق رجل الشرطة أن يستعين بمحام أمام مجلس التأديب، يطرحُ التساؤل حول الشيء الذِي يمكن أن يقوم به في حال تمَّ عزوُ قرار النقل إلى ما تقتضيه المصلحة، المتخذِ من قبل رؤساء المصلحة، الأعلى تراتبية منهُ، ففِي اليوم الموالي، على سبيل المثال، لأحداث 16 مايْ نُقلَ والِي أمن الدار البيضاء إلى تاوريرت. بمقتضى قرار يطرحُ أكثر من علامة استفهام. لأنَّه حتَّى في حالةِ ارتكاب المسؤول لخطأ من الأخطاء، يظلُّ من حقِّ المسؤول أن يمرَّ أمام لجنةٍ ليدافعَ عن نفسه على الأقل.