دمنات : من يوميات عام البون بويهوكن وأعمال السخرة 1
بقلم ذ: عصام صولجاني
في هذه السنة، استهل فصل الخريف قدومه، بسماء ملبدة بالغيوم، وأمطار رعدية متقلبة المزاج، تخبط في الأرض بعشوائية. منظر البيادر في الحقول المترامية البعيدة، بعد موسم ساد فيه الجفاف، يبدو أصفر فاقع. وغبار الأرض الذي تذروه الرياح، فوق أجسام الدواب الهزيلة. يضفي على مساكن القرية، مسحة من البؤس والكآبة. لم يتبق في تخت منزلنا غير نصف كيس من الشعير. وبضع أوقيات من زيت الزيتون. وقليل من حبوب الذرة. لن تكفينا هذه المؤونة الشحيحة سوى لأسبوع على الأكثر. علي أن أتدبر أمري وأقرر مصيريا. رغم أن عمري لم يتجاوز سن السابعة عشرة. إضافة إلى أن البقاء بالدوار أصبح مستحيلا. بعد أن أطلق مسؤول أعمال السخرة المدعو بويهوكن، نداء إنذاريا لجميع الشباب بمنطقة إنولثان للقدوم إلى أمام مكتب المراقب العام بحي البيرو، للانضمام لقافلة عمال السخرة، التي ستشق الطرق وتغرس الأشجار، بالأراضي الجبلية. بعض العائلات استطاعت أن تدفع الرشوة مقابل إعفاء أبنائها من أعمال السخرة الشاقة. وبعض الشباب المحظوظين من مدينة دمنات. سافروا إلى مدينة فاس للعمل في ورشات الحرف الجلدية. كصناعة ((البلعة)) والمشغولات الجلدية الأخرى. أما نحن شباب القرى البعيدة لنا الله. في هذه الليلة من فاتح أكتوبر من عام 1946م، لم يغمض لي جفن. وأنا أنتظر قدوم الصباح، لأذهب إلى حي الملاح اليهودي بمدينة دمنات. لقد قررت أن أبيع خنجرا فضيا قديما. كنت قد وجدته مدفونا تحت كومة ترابية. أثناء قيامي بحرث أحد الحقول الزراعية. إنها ثروتي التي ستضمن لي تذكرة السفر نحو مدينة فاس. هنالك سأعمل أجيرا بمصنع من المصانع. أو مساعدا لحرفي في ورشة من الورش. أجمع المال وأعود إلى القرية لمساعدة عائلتي. مع رفع المؤذن لأذان صلاة الفجر. قمت بوضع الخنجر في قطعة من قماش. ثم ربطته بجنب سترتي. ارتديت جلبابا قديما من الكتان، وانتعلت زوجا من ((تبوركسين)). ومن دون أن أخبر والداي بالأمر، تسللت بين الأشجار وانطلقت مسرعا، حتى اقتربت من ضفة وادي مهاصر. مشيت بمحاذاة الوادي فآلمني رؤية المياه الشحيحة. واشمأزت نفسي من رائحة جيف الدواب النافقة... وصلت إلى مشارف مدينة دمنات تسبقني خطاي، خائفا وجلا. وما أن اقتربت من بوابة ((باب إعرابين))، حتى رمقني مشرف أعمال السخرة عند إدارة الحماية الفرنسية المدعو بويهوكن. وكان يمتطي فرسه الأشهب، مثل فارس من فرسان القرون الوسطى. تمشي الهوينى بوجهه الأحمر، وعيناه القرمزيتان مثل عيني الصقر. وبقامته القصيرة، التي تنم عن شراسة وعدوانية. نادى علي بصوت قوي:
- تعالى إلى هنا يا أو بنعازي؟
لم أنبس ببنت شفة. ارتعدت فرائصي، وتسارعت دقات قلبي، وجف حلقي. ومثل السهم عندما يغادر القوس، هربت من الباب الصغير لباب إعرابين، وانعطفت يسارا نحو حي الملاح اليهودي. أجري بسرعة فائقة بين أزقة الملاح. وسط همهمات بعض النساء اليهوديات. متجها نحو المعبد اليهودي، الذي أراني إياه أبي عندما رافقته لشراء ملابس العيد بالملاح قبل سنة خلت. قال لي وهو يشير إلى البناية:
- هذا هو جامع اليهود.
اقتحمت المعبد اليهودي مثل كثلة حجرية سقطت من شاهق وأنا ألهث. تبعني على الفور عدد كبير من التجار اليهود وهم يصيحون ويحتجون بلهجة لم أفهم منها شيئا.
- أريد الأمان أريد الأمان من بويهوكن.
سألني أحدهم:
- ما مشكلتك؟
- جئت لقضاء غرض بالملاح، وعندما رآني الشيطان بويهوكن أراد أن يأخذني لعمل السخرة.
في الخارج أمام باب المعبد تجمهر عدد لا يحصى من اليهود والمتسوقين المسلمين. لمحت بينهم غريمي بويهوكن مع مساعده ((شاف شاطني)) بن عبد القاهر. وبويهوكن يقسم بأغلظ الأيمان بأن يأخذني لعمل السخرة ولو نزل سيدنا جبريل من السماء. مخاطبا مشرف المعبد بلغة سوقية:
أيها الحاخام أخرجه من المعبد وإلا ذهبت مكانه لصناعة ((الفاخر)) بإيسولان.
رد عليه الحاخام:-
الأمان هو أمان من الله. انتظره حتى يخرج عن طواعية، وإياك أن ترتكب حماقة وتقتحم المعبد. لأن الأمر سيصل لمولانا السلطان وللمقيم العام الفرنسي.
جلست على أرضية الكنيس، أفكر في مصيري المجهول. إذا ما وقعت في يد بويهوكن فسينالني عذاب وقهر شديدين. جلت بناظري في أرجاء المعبد فرأيت نافذة متوسطة الحجم يوجد أسفلها صندوقا خشبيا موضوعا فوق طاولة. بجانبها شمعدان نحاسي كبير. وكتب كثيرة ورقائق جلدية. ومن دون تردد صعدت فوق الصندوق الخشبي ثم قفزت من النافذة نحو المجهول. سمعت أحد اليهود يقول:
- لا تهرب يامسخوط الوالدين ستسقط وستتكسر سيقانك وسنتحمل نحن المسؤولية.
وقعت قدماي على سرير من الحلفاء وأخذت أجري فوق سطوح حي الملاح، من سطح منزل إلى آخر غير آبه بكلام النسوة وصياح الساكنين، ولعناتهم ودعوات شرهم، حتى وصلت إلى دار الدباغة. نزلت ببطء شديد كي لا أثير انتباه الصبية اليهود. وعندما لمست قدماي الأرض، أطلقت ساقي للريح مرة أخرى. أعدو بين منازل اليهود. لكن في لحظة التفتت خلفي فلم أرى أحدا. دلفت إلى أحد المنازل الكبيرة، وما إن رفعت رأسي حتى وجدت نفسي وجها لوجه مع رجل يهودي، طويل القامة حسن المظهر، بلباس أنيق ولحية مشذبة، وقلنسوة على رأسه ونظارات على عينيه. كان على أهبة مغادرة بيته سألني:
- ما خطبك؟
أخرجت الخنجر الفضي من سترتي، وخاطبته قائلا:- سيدي جئت لأبيع هذا الخنجر الفضي وعندما رآني مشرف عمل السخرة المدعو بويهوكن نادى علي فهربت منه.
- من أين وفدت؟
- من تاودانوست.
- مرحبا.
أعطيته الخنجر الفضي وشرع في فحصه والتدقيق في نقوشه:
- هذا قديم وبالي سأشتريه منك بعشرة فرنكات٠
- إنه يزن حوالي كيلوغرام من النقرة٠
- ولكنه مقفل اليد.
- حاول أن تفتحه، وبعد ذلك يمكنك جبره بقليل من اللحام.
أخذ الرجل اليهودي يسحب يد الخنجر بقوة، حتى انفتح وتساقطت منه عشرات من القطع النقدية الصفراء. التقطها الرجل اليهودي بسرعة. لمحت في عينيه لمعانا. قلت له:- والله لم أعلم بوجود هذه القطع. أهي قطع ذهبية؟
رد علي بسرعة: سأعطيك في كل هذا ثلاثمائة فرنك.
تناولت منه قطعة نقدية وشرعت في تهجي كتابتها
بسم الله الرحمن الرحيم
عبد الله الإمام
أبو العباس أحمد
المنصور بالله أمير المؤمنين
ضرب بحضرة/ مراكش/ أحاطها الله/ عام عشر وألف مسكوكة بمراكش في عهد السعديين.
خرجت علينا امرأة مليحة المحيا متبرجة الوجه واللباس وتوجهت للرجل اليهودي بالسؤال:
- كم دفعت له يا ليفي؟
- ثلاثمائة فرنك يا زوجتي العزيزة.
اتجهت صوبي بابتسامة عريضة ظهرت منها أسنان ناصعة البياض قائلة:
- هذا يكفي قل الله يخلف ويجعل البركة.
رددت عليها: الآلة مولاتي هذا خنجر فضي يزن كيلو غرام ومعه عشرات من قطع الذهب السعدي.
عندما سمعت بالذهب أمرت زوجها بأن نكمل المفاوضات بداخل المنزل حتى لا يسمع الجيران بالكلام.
دلفنا إلى داخل فناء المنزل، فتفاجأت بالأواني المعدنية اللامعة. والطاولات الخشبية المزركشة. وديكورات جميلة. ولأول مرة أرى منزلا جميلا في حياتي وساعة حائطية ترن. ياإلاهي لماذا خلقتنا بؤساء قلت في دواخلي.
نادت على ابنتها: يا حنا هات كأسا من الماء للضيف؟
تناولت كأس الماء من يد البنت حنا ووضعته جانبا. شدني جمال البنت فسرح خيال المراهق مع تقاسيم وجهها وقامتها الفارعة بعيدا. والسيد ليفي والسيدة حرمه يحاولان إقناعي بقبول مبلغ ثلاثمائة فرنك وأنا أطلب في المقابل خمسة آلاف فرنك...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
دمنات : من يوميات عام البون بويهوكن وأعمال السخرة 2
بقلم ذ: عصام صولجاني
وضع السيد ليفي الخنجر الفضي مع القطع النقدية الذهبية على طاولة من السيراميك الأزرق اللامع. وكان عددها ثلاث وأربعين قطعة. مد يده وفتح درجا يوجد بجانب الطاولة، وأخرج رزمة من الأوراق المالية من أحجام وفئات مختلفة. مع كأس من الفخار مليء بالقطع النقدية المعدنية، ثم نظر في وجهي مبتسما:
- سأعطيك في المقابل مبلغ ألف وخمسمائة (1500) فرنك، خذه وانصرف إلى حال سبيلك عند والديك. ولن أزيدك عليه سوى دعوات الخير والبركة.
- أكثر الله خيرك يا سيد ليفي، ولكن ألا ترى بأن القطع الذهبية تستحق أكثر من ذلك المبلغ؟ أريد منك أن تزيدني مبلغ خمسمائة (500) فرنك ليصير المجموع ألفي (2000) فرنك.
قدمت زوجة ليفي الجميلة، وفي يديها كومة من الملابس. وضعتها برفق فوق كنبة جلدية، وخاطبتني بصوت لطيف:
- هذه الملابس عبارة عن جلباب أزرق من الكتان نوع لاصافت ، وسروالا بنيا من الزيرزي، وقميصا فضيا من التيرقال، وزوجا من الأحذية نوع الشورش . هدية لك لتلبسها بدل الأسمال التي ترتديها. كنت قد اشتريت هذه الملابس من كازا بلانكا لولدي ديفيد كي يأخذها معه نحو مدينة أزرو، حيث سيكمل دراسته الثانوية هناك. لكنه استغنى عنها بالملابس الفرنسية الفاخرة التي جاءته من أعمامه وأخواله القاطنين بأمريكا.
جاءت بنتها حنا حاملة في يدها حزاما جلديا قائلة:
- هذا الحزام خير لك من حزام طرزان ابن الغابة الذي ترتديه.
تناولت الملابس بكلتا يداي وعاصفة من الفرح تغمرني بالدفء والسعادة. أنساني كل المشاهد السوداء التي استحوذت على تفكيري. ولا أكاد أصدق بأنني بين عشية وضحاها ستتغير حياتي. لا أصدق أجواء اللحظة التي أعيشها. شكرت السيدة ليفي وابنتها حنا على الهدايا الرائعة. وأمطرتهم بالعشرات من دعوات الخير التي حفظتها. وأخذت في تلمس ثوب الملابس، كانت ناعمة الملمس عكس الأسمال الخشنة التي أرتديها. وتساءلت في خاطري كيف لي أن ألبس هذه الملابس الفاخرة التي ستجعلني مثل أحد أبناء الأغنياء؟ وسيعيرني أبناء القرية بأنني (( أتشمع عليهم)). أنا الولد الفقير ابن الفلاح البسيط. الذي بالكاد يجد ما يأكله. بعد سنوات من القحط والجفاف؟ ثم كيف لي أن أفلت من قبضة بويهوكن الذي سيستنفر كل جهده لإرسالي إلى معسكر إيسولان للأعمال الشاقة؟ تذكرت والداي، أبي المسن المريض الذي لا يتوقف عن السعال، وأمي المكافحة التي تكدح في صمت منذ بزوغ الفجر حتى كبد الليل. لربما زارهم زبانية ((الكونطرول جنرال)). أو تلقوا تهديدا مباشرا من شيخ القبيلة، أو جاءهم مرسول من ((بيرو عراب)). وعنت ببالي فكرة وجدتها مناسبة، وهي أن أدفع لأبي بضعة فرنكات يعطيها لبويهوكن ليصرف نظره عني، أسوة بأبناء الأسر الأخرى.
قال لي السيد ليفي مازحا خذ الألف وخمسمائة (1500) فرنك. وارتدي طقم الملابس الفاخر الذي أهدتك إياه زوجتي، واذهب وتزوج عروسة جميلة.
وأردفت زوجته وهي ترى سمات الفرح في وجهي: يكفيك هذا المبلغ وهذه الهدايا واذهب وبركة الأنبياء معك.
- طيب هات المبلغ؟ قلت بحماس
نظر السيد ليفي في وجه زوجته نظرة المنتصر في مواجهة، ثم سلمني المبلغ، مخاطبا إياي قائلا:- يا لك من تاودانوستي شاطر.
تناولت المبلغ ثم وضعته في قطعة القماش ذاتها التي لففت فيها الخنجر. دسست ثروتي في جيب سترتي. وتوجهت للسيد ليفي قائلا:- رجاء منك دعني اختبأ في باحة منزلك حتى يحل الظلام، كي لا أقع في قبضة بويهوكن وزبانيته.
- لا يمكن لك أن تبقى هنا ولو لدقيقة واحدة. انصرف إلى حال سبيلك؟ رد علي السيد ليفي بلهجة صارمة.
نظرت إلى زوجته بنظرات استعطاف:
- أطال الله في عمرك يا سيدة ليفي اعملي معروفا؟
نظرت لزوجها نظرة استعطاف وقالت:
- لا بأس دعه في غرفة الأشياء المتلاشية خارج البيت حتى يحل الليل.
وافق السيد ليفي وقام بفتح باب الغرفة الخارجية وقال لي: ابق هنا ولا تثير ضجيجا.
بداخل غرفة المتلاشيات افترشت أكياسا من القش ومددت جسدي مسندا رأسي على جالون من الألمنيوم. أفكر في جمال البنت حنا وإشراقة وجه أمها، ولطافة السيد ليفي. وسرعان ما أخذتني غفوة خفيفة. وبعد لحظات سمعت البنت حنا تناديني:
اموحماد خذ هذا الطعام لتسد رمقك.
تناولت خبزا أبيضا محشوا بالسمك والخضار، أكلته بازدراد. وبعد هنيهة عادت البنت حنا ومعها ساعة يدوية وقالت:
- هذه الساعة لم يعد يستعملها أبي منذ سنوات. خذها وضعها في معصمك، إذا ما أردت السفر إلى كازابلانكا.
قلت لها متحسرا:
أحسن الله إليك. أنا وغيري من أبناء الفلاحين البسطاء. محكوم علينا ألا نتعدى حدود القرية. فبالأحرى أن أسافر إلى مدينة كازا. شكرتها بكثير من المدح والثناء. وقلبي يخفق لرؤية حوضها المكتنز. وصدرها الذي يفيض بالحيوية والجمال، وشعرها الأسود المنسدل، وعيناها العسليتان اللتان تبدوان مثل جوهرتان تكادان تضيئان المكان. وأنا أسرح بخيالي في جمال البنت حنا لم انتبه لهبوط الغسق وانسدال الظلام الدامس.
حل السيد ليفي حاملا في يده مصباح الغاز والفتيلة وقال لي بلهجة صارمة:
قم وتوكل على الله، هناك كوة في السور الملاصق لجانب حوش جاري بن شوشان. أزح اللوح الخشبي برفق من دون إثارة انتباه الجيران. وانسل منه نحو الحقول، وإياك ثم إياك أن تخبر أحدا.
ربطت كيس الملابس على ظهري بإحكام وتحسست المال بجانب سترتي. مددت يدي فجذبت اللوح الخشبي بهدوء ثم حشرت نفسي في الكوة، واندفعت منها نحو خارج حي الملاح. ودقات قلبي تكاد يرج منها سور المدينة؟ سمعت أصوات نباح الكلاب. وصدى نداءات بعيدة. القمر في السماء يضيء إضاءة خافتة، ووحشة الليل أصابتني بالذهول. توغلت بين الأشجار لمسافة طويلة حتى جذبتني رائحة وادي مهاصر. وأكملت المسير جنب الوادي حتى وصلت إلى القنطرة التي تربط بيت دمنات والبيرو عراب. من هناك اهتديت للطريق التي ستقودني للوصول إلى بيتي بالقرية بتاودانوست.
صعدت تلة ثم نزلت على هامش قرية أية معياض، غير آبه ببرودة الجو والأشواك والحصى المسننة.، التي تغمر الأرض وكل أملي أن لا يراني إنسيا.
وبأحد الحقول الزراعية جلست لأستريح والتقط أنفاسي. ولم أكد أنعم بلحظة من الراحة حتى سمعت حركة وخشخشة وأصواتا قلت رباه هذه خنازير برية. قمت على الفور وغادرت المكان إلى قرب جذع شجرة زيتون متأهبا لصعودها في حالة الخطر. مر قطيع الخنازير إلى وجهته بعيدا. وقبيل أذان الفجر تابعت سيري بخطوات متسارعة. حتى وصلت إلى مشارف القرية. استطلعت أزقة القرية وأرخيت سمعي كي لا يراني أحدا من الفلاحين. لكنني لم أرى أحدا. كان الجميع نائما وغارقا في مشاكله. وصلت إلى بيتنا تسلقت جدار الزريبة القصير. ثم نزلت ببطيء شديد. ثم صعدت نحو غرفة السطح (( تامصريت)) ومثل كيس من القمح سقطت على الأرض فتكورت ونمت نوم عميقا...
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
دمنات : من يوميات عام البون بويهوكن وأعمال السخرة 3
حلقت بي أجنحة النوم بعيدا، فوجدتني أمتطي حصانا أصيلا، وأركض بسرعة في سهل طويل، مزركش بالنباتات والأغراس مثل سجاد فارسي. في اتجاه مدينة دمنات. غير مكترث بعيون عسس القائد الكلاوي. ولا بشرطة المراقب العام الفرنسي. ولا بمسؤول أعمال الكلفة المدعو بويهوكن. وعند مقدمة بساتين الزيتون بمنطقة( إسران)، أطلق علي أحدهم صفيرا حادا أتبعه بصرخة قوية:
- يا غريب توقف.
لم ألتفت لأرى مصدر الصفير والنداء. بل واصلت الركض مستمتعا بلفحات الهواء الباردة المنعشة. فجأة سمعت خلفي صوت حوافر الخيول وهي تدك الأرض دكا. لقد بدأ الأوغاد في مطاردتي. تبا لكم وتبا لفرنسا المجرمة وعملاءها القتلة. قلت بصوت عالي. ومشرف عمال السخرة بويهوكن يصيح: توقف يا عدو الله وإلا سأطلق عليك النار.
- إن رميتني بالرصاص فتأكد بأنك ستبيت في قبرك اليوم يا كبير المجرمين.
لم أشعر حتى تخطيت بوابة( باب إعرابن) . قمت بحركة دائرية وسط المحرك. والحصان يصهل صهيل الحروب وساحات الوغى. نزلت بهدوء فلحق بي على الفور بويهوكن رفقة اثنين من مساعديه. طوقوني شاهرين في وجهي أسلحتهم:
- لماذا لا تريد أن تتوقف ((ياكوراك يتعين الضو أو بن عزي)).
حدقت في وجهه وهامته، مركزا نظري على رقبته. وتمنيت لو تتاح لي الفرصة لأفصل رأسه عن جسده كما يفعل أبي لأضحية العيد. نظرت إلى سحنات مرافقيه وأشكال أجسامهم القبيحة وشواربهم الكثيفة المتسخة، وعيونهم المحشوة بالكراهية والغباء. وفي تحدي صارخ، صرخت في وجه بويهوكن:
- تعالى نازلني رأسا لرأس أمام الملأ.
وبسرعة ارتمى نحوي مثل قطة شرسة. وهاجمني بلكمة قوية، تجنبتها بخفة، وعالجت خذه الأحمر الممتلأ بصفعة قوية. أعقبتها بلكمات متتالية، حتى سقط على الأرض. وأخذت أترفش على بطنه بأقدامي كما يفعل ذابغو الجلود في أحواض الماء بدار الدباغ. لم يهرع أي واحد من مرافقيه لمساعدته. قفزت فوق حصاني بسرعة وصعدت مرتفعا عند ضريح (سيدي أحمد وسعيد) ثم انعطفت يسارا نحو زنقة (الزيواني) . هناك رآني مجموعة من عسكر (الغوم) التابعين للقائد الكلاوي وفي أياديهم عصي غليظة. جرى نحوي أحدهم وهو يأمرني بالتوقف. فيما أحدهم يسأل صاحبه بلكنته:
-( مايغا واراداد) .
تجاهلته منطلقا بسرعة. سمعت وابلا من الشتائم والتهديد والوعيد:
- (وخا فلاك إباس نيباك) .
مررت أمام دار الدباغ فوجدت مجموعة من الناس مفترشين حصيرا يشربون الشاي وهم ينشدون الأناشيد. تجاوزتهم مرورا بحقول إكاداين، ثم نحو بساتين (تلات نتوايا) ، ومنها نزلت بجانب ضفة وادي مهاصر. فهالني مشهد عشرات من الفتيات العذارى اليهوديات. بعضهن يغسل الملابس والبعض الآخر يسبح في ركن من الوادي. سمعت إحداهن تناديني بصوت عذب سلسبيل:
- أقبل يا موحماد التاودانوستي.
قدمت إليها مسرعا منبهرا لجمالها وقدها الممشوق قلت لها:
- أنت حنا بنت السيد ليفي؟
- بلى أنا هي حنا خذني معك إلى أي مكان تريد فما عدت أطيق العيش بالملاح.
مددت يدي فسحبتها مثل غزالة فوق صهوة الحصان وانطلقت مسرعا نحو الغابة . فجأة تناهى إلى سمعي صوت ضربات قوية على باب غرفتي ب (تامصريت.) فاستيقظت من حلمي مذعورا، والعرق يتصبب من جسمي، أتحسر على نهاية حلمي اللذيذ. فرأيت أمامي والدتي المسكينة واقفة وعيناها مغرورقتان بالدموع. قبلت يدها ورأسها طالبا منها المعذرة فسألتني:-
متى عدت إلى البيت؟ لم نعلم بوجودك بغرفة( تامصريت) .
- لقد جئت ليلا يا أماه، ونزلت إلى المنزل من حائط الزريبة هل رآني والدي؟
- لو رآك لصب غضبه عليك، أين كنت كل هذه المدة؟
- ذهبت إلى حي الملاح بدمنات . كي أبيع الخنجر الفضي القديم الذي وجدته بالحقل. وقد نادى علي بويهوكن فخفت أن يأخذني لأعمال الكلفة وهربت إلى داخل حي الملاح. وعندما حل الظلام قفلت عائدا إلى البيت.
- لقد جاء شيخ القبيلة رفقة المتسلط بويهوكن يسألان عنك، ولمل لم يجدوك أخذوا أباك (( قوسيني )) ب(بيرو عراب) .
- وأين هو الآن؟ أما يزال عندهم؟
- الحمد لله أن قيض له الله فقيها من دوار أية بوجمعة. تدخل عند الحاكم الفرنسي فأطلق سراحه. وهو الآن يشتغل في الحقل.
طأطأت رأسي غاضبا حانقا حاقدا على ظروف القهر المسلطة على البؤساء من طرف الاستعمار الفرنسي. جاءتني الوالدة بكسرة من خبز الشعير مدهونة بقليل من زيت الزيتون قائلة:
- لا شك أنك جائع يا ولدي.
أجبتها بأن عائلة ليفي أعطتني خبزا من الخالص محشوا بقطع من السمك والخضار فانتفضت في وجهي مستنكرة:
- يا وياتاه أاكلت من طعام اليهود؟
- نعم لقد كان طعاما لذيذا يا أماه وهم ماكانوا ليطعموني لولا أنني بعت لهم الخنجر الفضي المحشو بالقطع الذهبية.
تناولت خبز الشعير وشربت من ماء خابية الفخار ثم أسريت لها بالقول:
- الحمد لله لقد بعت الخنجر الفضي بما فيه من قطع ذهبية لأحد اليهود الكرماء بحي الملاح يدعى ليفي.
- كم أعطاك في المقابل؟
- أعطاني الخير والبركة يا أماه كما أن زوجته أهدتني طقما من الملابس الجديدة مثل تلك التي يلبسها النصارى. سأمنح أبي مبلغ مائة فرنك يعطي منها لبويهوكن عشرة 10 فرنكات كي يعفيني من عمل الكلفة والباقي يشتري به كل ما نحتاجه من مؤونة، لقد أصبحنا من الأغنياء يا أماه.
مددت يدي إلى كيس الملابس وأخذت أستعرض قطع الملابس الجديدة واحدة تلو أخرى. فاشمأزت والدتي من رؤية تلك الملابس. محذرة إياي من ارتداءها لأن في ذلك تشبها باليهود والنصارى أعداء الله والنبي.
بعد وقت طويل، سمعت سعال أبي وصرير باب منزلنا هرولت نحوه وأخذت أقبل يداه ورأسه طالبا منه المعذرة، فصرخ في وجهي قائلا:
- يا مسخوط الوالدين لماذا لم تستأذني في ذهابك إلى دمنات ؟
تدخلت والدتي وهدأت من روعه ثم سردت عليه كل الحكاية. ناولته مبلغ المائة فرنك وتوجهت له بالكلام:
- مثلما حكت لك الوالدة لقد حصلت على المال مقابل الخنجر وقطع الذهب الموجودة بداخله. أعطي لبويهوكن عشرة فرنكات مقابل أن يعفيني من عمل الكلفة والباقي اشتري به المؤونة للبيت.
- كم من المال أعطاك اليهودي مقابل الخنجر والقطع الذهبية؟
- الخير والبركة يا أبي.
رغم امتعاضه إلا أن بريقا لاح في عينيه وإشراقة على محياه. لم ألحظها فيه منذ زمن الطفولة البعيد.
في صباح اليوم الموالي نهض والدي مبكرا ...وامتطى ظهر دابته وقصد بيرو عراب لمقابلة بويهوكن. كما أن أمي هيأت طبقا شهيا من حساء الذرة. تناولت منه زبدية واحدة مع بضع حبات من التين المجفف. وبعد ذلك صعدت إلى غرفتي بتامصريت خبأت مبلغ الألف فرنك في تجويف عمود خشبي (تامالالت) يرتكز عليه سقف الغرفة. واحتفظت بمبلغ أربعمائة 400 فرنك في جيب سترتي. بعد ذلك شرعت في ارتداء الملابس الجديدة. وأخذت أستعرض حالي داخل الغرفة. مزهوا مثل طاووس. وقبيل أذان الظهر بقليل عاد والدي وتباشير الفرح تعلو محياه قال:
- وأنا في الطريق التقيت ببويهوكن رفقة معاونيه فطلبته في حديث ثنائي. ولما اقترب مني وضعت العشرة فرنكات في يده، طالبا منه كي يعفيك من عمل الكلفة. فأخذ مني المال فرحا مزهوا مقسما لي بأغلظ الأيمان ألا يسأل عنك أبدا.
شعرت وكأنني عصفور يغادر قفصه. وقلت بصوت جهوري: - أخيرا سأذهب إلى مدينة دمنات دون خوف. أخيرا لن يطاردني بويهوكن. قبلت رأس والدتي ورأس أبي مرددا الحمد لله الحمد لله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
دمنات : من يوميات عام البون بويهوكن وأعمال السخرة
الحلقـــــ 04 ــــة
أزيلال 24 :عصام صولجاني
مع إشراقة صباح اليوم الموالي، وقبل أن يتناول الناس إفطارهم. شرع براح سلطة الحماية الفرنسية المدعو بويسكارن، في مناداة الناس بصوت قوي. ممتطيا ظهر بغل متنقل بين دواوير وحارات قبيلة تاودانوست. مرددا لازمة واحدة:
- لا إلاه إلا الله محمد رسول الله، إن سيدي الحاكم يأمركم بالقدوم إلى ساحة الثكنة العسكرية بالبيرو مساء هذا اليوم. ومن لا يلبي النداء فعقابه سيكون وخيما. والحاضر منكم يعلم الغائب.
كان لهذا النداء المفاجئ مفعول قنبلة شديدة المفعول. زلزلت أركان القلوب، وجعلها ترتجف خوفا من دسائس سلطات الحماية الفرنسية وأعوانها. وما أكثر الإعلانات التي يطلقها المستعمر بين فينة وأخرى، ولا يجني منها السكان غير السراب. وأخذ الناس يتوجسون شرا من هذه الدعوة. وبدأ بعضهم في طرح الفرضيات والاحتمالات لما سيكون. فهناك من خاف من مصادرة أملاكه. وهنالك من توقع دفع المكوس. ومنهم من تفاءل خيرا، معتقدا في قرارة نفسه بأن الحاكم الفرنسي سيأمر بتوزيع المؤونة الغذائية على الفقراء والمحتاجين. بعد سنوات من القحط والجفاف. وذهب الجميع لترتيب أمورهم استعدادا للحضور إلى المكان المعلوم. سألت والدي عن الأمر فأجابني بلا مبالاة:
- وهل يجنى من العقارب عسلا؟
جال بناظريه على أرجاء البيت. ثم ألقى نظرة على قدور الماء المصطفة في باحة المنزل. فوجدها شبه فارغة وأمرني قائلا:
- عليك يا ولدي بالذهاب صوب منبع الماء الحلو لتعبئتها. وأنا سأذهب إلى الحقل لجمع الحطب والكلأ.
على الفور هيأت قدور الطين على ظهر الدابة. وانطلقت مسرعا نحو منبع الماء. في الطريق شاهدت مناظر بئيسة لدواجن ميتة ودواب متعفنة، ووجوه يعلو ملامحها التعب والمسغبة. وعندما وصلت إلى المنبع، وجدت العشرات من الرجال والنساء مع دوابهم ينتظرون دورهم. سألني أحد الرجال: هل أنت ابن أوبنعازي؟ فأجبته بنعم فرد علي: تبارك الله لقد أصبحت رجلا ألم تتزوج بعد؟-
-ما زلت صغيرا، عمري الآن لا يتجاوز السابعة عشرة عاما.
- من قال لك هذا؟ إن عمرك أكثر من ذلك بكثير. أنا أتذكر يوم حفلة عقيقتك. كان ذلك قبل عشرين عاما أو أكثر. ولا تنسى أن تبلغ سلامي إلى والدك. وقل له إن أوبنسيموح يسأل عنك.
جاء دوري قمت وعبأت قدور الفخار عن آخرها بالماء الحلو. وقفلت عائدا إلى البيت، وعند أحد الحقول وجدت والدي رفقة بعض الرجال من أبناء القبيلة. يتداولون بشأن تلبية دعوة الحاكم من عدمها. سمعت أحدهم يقول لوالدي، لا تنتظر خيرا من الفرنسيين وعملاءهم.
أنزلت قدور الماء برفق من ظهر الدابة. ثم رتبتها في مكانها بباحة المنزل. ثم صعدت إلى غرفتي بتامصريت. ارتديت الملابس التي أهدتها لي مدام ليفي. ونزلت الدرج متجها نحو الخارج لكن عند الباب استوقفني والدي مندهشا وفاغرا فاه مستغربا من هندامي الجديد. فسحبني من يدي إلى داخل المنزل غاضبا:
- هل تريد أن تفضح نفسك وتفضحنا معك بهذه الملابس، التي لا يرتديها سوى النصارى واليهود؟ وماذا لو سألك أعوان الحاكم عن مصدرها؟ وهم يعلمون أننا مجرد فلاحين فقراء.
أيدته والدتي في كلامه، مبدية امتعاضها الشديد من عدم سماعي لكلامها. وخاطبت والدي قائلة:
- لقد نبهته إلى هذا الأمر الخطير منذ اليوم الأول.
انصعت إلى أوامر والداي، وقمت باستبدال ملابسي الجديدة بأسمالي القديمة. مع قبعة تارازال فوق رأسي. فيما ارتدى أبي جلبابا أبيض صوفيا، مع بلغة جلدية. ولف رأسه بقماش أبيض. وشددنا الرحال نحو المكان الموعود. امتلأت الطرقات بالناس من أهل تاودانوست، شيبا وشبابا وكهولا. كما يحدث عند الذهاب للمصلى لصلاة العيد. ومن بعيد سمعت صدى قرع الطبل والطعارج لفرقة دقة تاودانوست. وبعد ساعة من المشي وصلنا إلى ساحة الثكنة العسكرية قبيل صلاة العصر. ووجدنا المئات من الناس بعضهم جلوسا على الأرض. وأخذت ساحة الثكنة تمتلئ شيئا فشيئا. حتى ضاقت بما رحبت. وبداخل خيمة كبيرة جلس مجموعة من الشخصيات العسكرية والمدنية. يتوسطهم المراقب العام الفرنسي.
ساد صمت رهيب وسط الحضور. فجأة خرج من الثكنة عشرة جنود بزيهم العسكري المميز، وهم يخطون بخطوات عسكرية يتقدمهم ضابط كبير تزين صدره نايشين براقة. وبدأت فرقة موسيقية بعزف نشيد لامارساييز. تقدم أحد الجنود فقدم التحية العسكرية لضابط، ثم تناول من يده العلم الفرنسي، وقام بربطه من أحد أطرافه بحبال بيضاء. ثم أخذ في سحب أحد الحبال إلى الأسفل. فيما أخذ العلم الفرنسي يصعد شيئا فشيئا، حتى وصل أعلى الصاري الحديدي، ليرفرف العلم الفرنسي خفاقا أمام الثكنة العسكرية. تقدم المراقب العام الفرنسي رفقة أحد الضباط العسكريين، أمام مجموعة من الرجال بجلابيب وبرانس بيضاء، وقفوا متراصين في صف مستقيم، وأخذ يوشح صدورهم بميداليات ذهبية. رأيت غريمي مسؤول السخرة المدعو بويهوكن، ومساعديه، بلباس الخدم والحريم. يوزعون الشاي والحلويات على الفرنسيين بداخل الخيمة. صعد المراقب العام الفرنسي فوق صندوق خشبي، مغطى بزربية صوفية مزركشة. وأخذ يرتجل خطابا بلغة فرنسية ممزوجة باللهجة الدارجة. فشكر الساكنة وشرح بإسهاب فضائل فرنسا في إرساء الأمن، ورفع مستوى الصحة والتعليم والمعيشة للمغاربة. ونوه بتضحيات فرنسا في هزيمة النازية. وسط تصفيق حار من الحاضزين.
أنهى المراقب العام الفرنسي كلمته. وانطلقت الموسيقى والأهازيج الشعبية المختلفة في آن واحد. اختلطت إيقاعات دقة تاودانوست مع ضربات دفوف الدقة الدمناتية. مع قرعات طبول الفرق الموسيقية القادمة من القبائل الجبلية. تطاير الغبار فوق رؤوسنا وكأننا وسط سرب من خيول الفروسية. ونحن نسير بين الناس، تعرف والدي على أحد أصدقائه، من دوار أية معياض. كان مصحوبا بابنه البكر. تبادلا أطراف الحديث ثم جلسا القرفصاء على صخرة. ودخلا في حوار عميق. طلب مني ابن صديق والدي، بأن نذهب سويا لنستطلع ساحة الثكنة ونتفرج عن كثب على الفرق الموسيقية. فأشار علي والدي وطلب منا ألا نذهب بعيدا. كان هذا الشاب المعياضي في مثل سني تقريبا. لكنه تبدو عليه الشراسة والخبرة في الحياة. قال لي بأنه ملم بأمور الزراعة والفلاحة. وبأنه يذهب لوحده إلى سوق الأحد بدمنات، لبيع الخضار والفواكه. وأن والده يعتمد عليه في جل أمور البيت. وقد بدا لي بأنه تعلم الكثير من فنون الحياة ومغامرات الشباب. تنفس الناس الصعداء وزال الخوف عنهم. بعد أن تبين لهم بأن سلطات الحماية الفرنسية، أرادت فقط أن تجس نبض الناس. وأن تستعرض قوتها عليهم، لقبول سياسة أمرها الواقع. توزع الجمع الغفير، وانفض السامر. وعاد كل واحد إلى همومه السوداء، التي زادها الجفاف قتامة وسوادا. وعند مفترق الطرق بين تاودانوست وايت معياض. ودع والدي صديقه بحرارة وبدوري حييت نجله على أمل رؤيته بالسوق نبرا يوم الأحد. عدت إلى روتين الأعمال الشاقة بالحقل، وبالبانكيط، ولتعبئة الماء من منبع الماء الشحيح. أمرني أبي بحرث أحد الحقول لزراعة الذرة. أملا في أن يعوضنا الله عما ضاع لنا في الموسم الفلاحي، الذي قضى عليه الجفاف. في صبيحة يوم السوق الأسبوعي، استيقظت باكرا تناولت بعضا من خبز وزيتون وشاي محلى. أعطتني والدتي دجاجتين وديك حسن الصوت، قصد بيعهما. وأوصتني بأن أشتري لها من الملاح ثوبا جديدا، وأغراضا نسائية. امتطيت الدابة صحبة والدي، وتوجهنا نحو سوق الأحد بدمنات . مررنا بدوار أيت معياض. ثم أمام السبيطار وكان منظر بنايته، ورائحة الأدوية التي تفوح منها تثير الخوف في النفس. كان يقف بساحته ممرضان بوزيرتهما البيضاء يتبادلان الحديث. وعند مدخل السوق الأسبوعي حصل ما كنا نخاف منه. هرول نحونا فردان من مخازنية القائد الكلاوي. وأخذوا في تفتيشنا، مد أحدهم يده فمسك بالديك، وترك الدجاجتين. ونظر في وجه صاحبه وقال متهكما:
- يا له من ديك سمين سيفرح به جناب القائد
. ترجاه والدي، لكنه انطلق بسرعة مثل كلب صيد عندما يحمل طريدة بين فكيه. مسك والدي على رأسه بقبضتيه.، وأطلق زفيرا، أعقبه بوابل من الأدعية على القائد الكلاوي، وأعوانه والاستعمار وأذنابه. بعت الدجاجتين فور وصولي إلى سوق الدواجن. بعد ذلك عرجنا على سوق الحبوب فوجدناها خاوية على عروشها. إلا من بعض الشعير الأسود المخلوط بالتبن والحصى. بعدها ذهبنا عند بائعي الخضر. فتفاجأت بوجود نجل صديق والدي المعياضي . وقد فرحت كثيرا لرؤيته. ذهبت للسلام عليه، فسأله والدي عن أحوال والده، وعن ظروف الزراعة، فأجابه بكل ثقة، بأن الأمور عنده في تحسن مستمر. كانت أمام صديقي المعياضي تشكيلة من خضر متنوعة. تركني والدي مع صديقي وذهب لقضاء بعض الأغراض. قال لي صديقي المعياضي :- بعد وقت وجيز، سأنهي بيع بضاعتي. وبعدها سنتفرغ للتجول بالمدينة. عاد أبي بسرعة وطلب مني المغادرة إلى قريتنا. استأذنته بالبقاء رفقة نجل صديقه، حتى ينتهي من يبع الخضر. ثم العودة صحبته. فطلب مني ألا أتأخر، وأن أنتبه لنفسي. تدخل صديقي المعياضي ليطمئن والدي قائلا:- - اطمئن يا عزيزي أحمد، سنعود قبل صلاة العصر؟ امتطى والدي دابته وانطلق، راقبته حتى اختفى عن ناظري.
باع صديقي المعياضي ما تبقى له من الخضار. وسلم لوالده المبلغ المتحصل من تجارته. شكره والده وأثنى عليه قائلا:
- الله يرضي عليك ياو لدي.
نظر إلي والده مبتسما وقال:
- لقد التقيت بوالدك عند الحفاف. وقد حكى لي عن عملك. وأوصيك بأبيك خيرا، ساعده وكن له سندا.
طأطأت رأسي خجلا واحتراما فيما صديقي أخبر والده قائلا:
- سأتجول قليلا رفقة ابن صديقك قبل أن أعود إلى البيت. ودع والده وعاد يقول لي بحماس:
-سأذهب إلى فندق إيشان وسط المدينة، للاستمتاع مع إحدى الغواني الحسان. يمكنك أن تنتظرني عند باب الملاح، أو أمام منزل المسيو شارو.
- ولم لا نذهب سويا؟
- كم معك من المال؟
خمسة عشرة فرنكا.
- ما رأيك في السهر لليلة واحدة بفندق إيشان؟، سترى الحياة بمنظور آخر يا أوبنعازي وسنعيش مثل الملوك.
- وافقته الرأي بكل حماس، متناسيا أمر العودة إلى المنزل. وما سيسببه غيابي من مشاكل لوالدتي المسكينة.
انطلقنا إلى زنقة الزيواني، عند محل مشهور بالتوابل والمكسرات والحلويات. في ملكية الحاج الفاسي. ابتعنا من عنده لوازم الطنجية من توابل، ومكسرات وحلويات. ثم عرجنا عند محل أمين الجزارين، واشترينا شرائح من لحم العجل، بعد ذلك طرقنا باب محل القهوجي ناصر أو مليح المتأصل من سكورة. وأوصاه صديقي بأن يهيأ لنا ألذ وجبة. نظر إلي صديقي المعياضي وسألني سؤالا لم أتوقعه:
- هل جربت شرب الخمر؟
- لم أشرب الخمر أبدا.
- عليك أن تعلم أن السهر مع الجميلات في فندق إيشان لا تحلو من دون خمر.
- لا بأس في ذلك. سأشرب كأسين أو ثلاثة.
ذهبنا نحو كانتينة السيد لوازيس القريبة من باب إعرابن. وكان هذا الأوروبي شابا طويل القامة، وممتلأ الجسم،. وقد علمت لاحقا بأنه ذو جنسية مزدوجة، فرنسية وإيطالية. كان ينتمي إلى حركة الألوية الحمراء الشيوعية الإيطالية. ولما قامت الفاشية بإيطاليا، نفذ بجلده ولجأ إلى المغرب، واستقر بمدينة دمنات. استقبلنا المسيو لوازيس بابتسامة عريضة، وأدب جم. طلب منه المعياضي زجاجتان من الكونياك، وواحدة من الفينيكس. قال لي المعياضي ساخرا:
- الكونياك والفينيكس للمبتدئين في عالم الليل والخمر. أما أنا فسأذهب عند السيد شلومو بن عمار بالملاح. لأبتاع من عنده زجاجة من ماء الحياة. حيية القلب ومحسنة المزاج.
وهكذا دخلنا إلى حي الملاح تترصدنا عيون التجار والحرفيين اليهود. وجدنا السيد شلومو وهو منهمك في إغلاق باب حانوته. فترجاه صديقي المعياضي أن يفتح الحانوت من جديد. ناوله نصف فرنك. فأعطاه زجاجة من الماحيا تفوح منها رائحة التين النفاذة. جمعنا أغراضنا في سلة من جريد الدوم. وذهبنا تسبقنا خطانا نحو فندق إيشان. بستان المتعة ومرتع اللذة. يقع هذا الفندق الذي يقصده العزاب والباحثون عن العلاقات الجنسية خارج نطاق الزواج. وسط المدينة. وهو عبارة عن بناء تصطف فيه غرف صغيرة على شكل دائري. تتوسطه ساحة كبيرة. سمحت سلطات الحماية الفرنسية بتحويله إلى ماخور. تراقب عن كثب كل حركة بداخله. مع المراقبة الصحية الدورية لكل عاملة جنس به. حفاظا على سلامة الزبناء، مقابل سومة ضريبية تستخلصها إدارة المستعمر من عاملات الجنس. عند باب فندق إيشان وجدنا حارس الفندق العرص المدعو حمادي بوتازارين. بطربوشه الأحمر وجلبابه الزيواني وبلغته الفاسية. شاب أسمر اللون دائم الابتسامة. تعرف على صديقي المعياضي بمجرد رؤيته. سأله صديقي عن جديد الفندق فبشره بقدوم وافدات جدد. في عمر الزهور. دسست فرنكا واحدا في يد العرص حمادي بوتازارين. فغمزني قائلا سأحجز لك السبليونية مولاة الخال. طلب صديقي من حمادي بوتازارين أن يذهب ليؤجر لنا جهاز فونوغراف مع أسطوانات محمد عبد الوهاب وأم كلثوم والمغني التونسي الشيخ العفريت. رد عليه العرص حمادي:
- هات المال وسأحضر لك كل شيء تريده.
ناوله صديقي الفرنكات المطلوبة مع بقشيش وأوصاه بأن يرسل أحدهم إلى محل القهوجي ناصر أومليح للإتيان بالطنجية حالما جهزت. قال لنا العرض حمادي
- ادخلا للفندق وسأتدبر لكما أمر تهيئة الطاولة...
ـــــــــــــــــــــــ
دمنات :من يوميات عام البون بويهوكن وأعمال السخرة
الحلقة 5
أزيلال 24 :عصام صولجاني
قمت بجولة وسط ساحة فندق إيشان. كانت هنالك صناديق خمر خشبية فارغة، وخردة من الحديد والأسلاك، وحبال غسيل منشور عليها ملابس نسائية. وأمام أبواب غرف الفندق، ظهرت ألوان من الأقمشة الزاهية. على أجساد غضة لنساء بسحنات ولكنات مختلفة. فخفق قلبي، وفار الدم في عروقي، وتفتقت جبال الشهوات عن أنهار من اللذات. فهذه امرأة ذات طلعة فاتنة، وإشراقة وجه مليحة. وتلك ممشوقة القد، ذهبية الشعر، بعينين زرقاوين تفيضان بالجود والكرم. وإلى جانبها خيزرانة فارعة الطول. كأنها البدر العملاق في ليلة ربيعية مقمرة. لم أستطع النظر إلى عينيها لقوة جاذبيتهما. وتلك ذات نظرات ناعسة وثغر عذب. وشفتان جمعتا من شفق الشمس، وحمرة الأقحوان جدولا من العسل. وامرأة صاحبة عنق طويل، وجسد ممتلأ مثل دالية مثقلة بعناقيد من العنب. وعند آخر الفندق حسناء بين أخريات تتغنج في ودلال وهي تمج من لفافة التبغ بيد، وتمسك بالأخرى زجاجة كونياك. طويلة القامة يجري ماء النظارة في وجهها مثل الماء الرقراق وسط رواب غناء. كنت مستغرقا في تملي وجوه فاتنات فندق إيشان. فسافر عقلي بعيدا وسط عالم من متع الحياة. عدت جهة باب الفندق، فوجدت صديقي المعياضي وقد دخل في حوار عميق مع إحدى الحسناوات، ورائحة ماء الحياة تملأ المكان بعبق التين المعتق. وقال لي منتشيا:
- هذه الرومية تعتبر ملكة جمال فندق إيشان. التي جرى حديث جمالها على جميع الألسن. إنها صديقتي المفضلة.
وكانت الرومية بالفعل امرأة فائقة الحسن. واضحة القسمات، شديدة سواد الشعر واسعة العينين. أشد إغراء من جل الغواني التي رأيت. كانت تتحدث بدارجة مكسورة بكوكتيل من كلمات أمازيغية وفرنسية. أمرني صديقي بالجلوس في انتظار عودة العرص حمادي بوتازارين . ومد يده إلى زجاجة من الكونياك وفتحها ثم سلمها لي قائلا:
- تناول كأسا منها كي تطرد الخجل وتذهب عنك الدهشة.
أخذت القارورة واسترسلت في الشرب،مما أثار انتباه صديقي الذي مد يده وسحب مني الزجاجة معاتبا:
- هذا خمر وليس ماء. إنه لا يشرب بسرعة، ولكن على مهل.
ضحكت علي صديقته الرومية حتى كادت تسقط على قفاها، ثم توجهت إلي بالكلام:
- لا شك أنها أول مرة تأتي فيها إلى فندق إيشان لتتذوق حلاوة الحياة. لكن مع الوقت ستتعلم فنون العيش بهذه المدرسة.
شعرت بخمر الكونياك يسري في بدني، مثل خدر لذيذ. وأطلقت في وجه الرومية عبارات من الغزل بكلام فاحش. فأمرني صديقي المعياطي بالصمت. عاد العرص حمادي يتبختر في مشيته مثل طاووس. تعلو محياه ابتسامة الصبي الفرحان. حاملا بكلتا
يديه جهاز الفونوغراف. يتبعه شاب أسود البشرة. طويل القامة عريض المنكبين. يحمل فوق رأسه صحن كبير من الدوم. عليه قدر الطنجية الدمناتية،
ودزينة من الخبز. أمره العرص حمادي قائلا:
- یا ابن سالیغان أنزل الطنجية برفق أمام غرفة سلطانة وانصرف.
أجابه ابن ساليغان بصوت ناعم:
- نعم سيدي حمادي الزوين.
- اتبعاني إلى غرفة سلطانة، لأن مساحتها تسع لكما، وبها طاولة كبيرة.
أمرنا العرص حمادي بحماس. وأمام غرفة هذه الغانية السمراء، التي لا تخلو ملامحها من جمال. وقف العرص حمادي وهمس في أذنها بكلمات، أعقبتهما بابتسامة وضحكات. أعطيت العرص حمادي مبلغ ثلاثة فرنكات، فدسهما فورا في يد سلطانة، التي من فرط فرحها وضعت رهن إشارتنا عشر شمعات وعلبة من أعواد ثقاب.
رتب العرص حمادي طاولتنا، ترتيبا على ذوقه الرفيع. فوضع الطنجية محاطة بدائرة من أقراص الخبز. إلى جانبها أربعة كؤوس مفعمة بالكونياك والفينيكس. وعلى صندوق قديم بزاوية الغرفة، وضع جهاز الفونوغراف. ثم تبث أسطوانة في قالب دائري بالجهاز. وأخذت في الدوران، ثم أنزل الشوكة على الأسطوانة. فلاح صوت محمد عبد الوهاب يصدح مع أنغام تشنف الأسماع:
- اجري أجري وديني قوام وصلني وصلني قوام وصلني داحبيب الروح مستني.
ذهب العرص حمادي للإتيان بالسبليونية مولات الخال كما وعدني. وفي انتظار عودته ذهبت قرب جهاز الفونوغراف العجيب، استبدلت أسطوانة عبد الوهاب بأخرى للشيخ العفريت يقول فيها :
-((لأيام كيف الريح في البريمة غربي وشرڨي ما يدومش ديمة
صبرت ڨلبي للصبر ماباشي نا صابرة والنار لهبت جاشي
ياعين كوني صابرة عزّامة الصبر كلمة والفرج ڨدّامه
الصبر ماكيفه دواء للّيعة كميان سرّه خير من تطليعه)).
استمع إلى هذه الأغنية الحزينة وأرشف من الكأس، جرعات من الكونياك. أما صديقي المعياضي وصديقته الرومية، فقد جلسا وجها لوجه يتناجيان حول زجاجة ماء الحياة. عاد العرص حمادي بوتازارين بسرعة فائقة، صحبة السبليونية مولاة الخال. ولجا معا إلى الغرفة فنظر إلي قائلا:
--اعتني كثيرا بهذه الوردة.
قلت له بحماس:
- شكرا لك يا أحلى عرص في الدنيا.
شملت البنت السبليونية مولاة الخال بنظرة فاحصة. كانت كل قطعة من جسدها تحكي قصصا من ألف ليلة وليلة. حسبتها مثل طاولة مليئة بشتى النعم. نظر إلى المعياضي مبتسما:
- هل هذه أول مرة تكتشف فيها جسد امرأة جميلة؟
. ليس إلى هذا الحد يا صديقي؟ أجبت ساخرا.
تحلقنا حول صحن الطنجية الدمناتية، وشرعنا في ازدراد مكوناتها اللذيذة. حتى أتينا على آخر قطعة لحم بها. بعد ذلك قام المعياضي وصب الفينيكس في كأسين. واحدة لصديقته الرومية، وأخرى جرعها في لمح البصر. وأطلق ضحكة رجت منها حيطان الغرفة صائحا:
- هذه الكأس للانتشاء بهذه الليلة السعيدة ((أتغوس أتغوس وا بوه بوه)).
قامت صديقته الرومية إلى جهاز الفونوغراف ووضعت أسطوانة لأم كلثوم تغني فيها عن الجمال والحب:
-(( نا في انتظارك خليت
أنا في انتظارك خليت
ناري في ضلوعي وحطيت
إيدي على خدي وعدِيت…))
وشرعت في ترديد كلمات الأغنية، ببحة صوت مميزة. التفتت إلى المعياطي منوها إياه:
- ما أسعدك بصديقتك الرومية، التي جمعت بين الجمال الفتان، والصوت العذب.
قامت صديقتي السبليونية مولاة الخال، وأوقدت أربع شمعات من النوع الطويل ((المذراع)). فأضاءت الغرفة أكثر. وظهرت ظلالنا الكبيرة على الحيطان. ثم ملأت كأسين من الكونياك. شربت واحدة على عجل. وقدمت لي الأخرى. وهي تنشد موالا عربيا بقرار حزين. فأثنيت عليها:
- يا له من صوت جميل.
أجابتني بكل ثقة في النفس:
- كنت أشتغل في خمارات طنجة، كمغنية ومنلوجيست، وعندما وقع في حبي ضابط فرنسي. انتقلت معه للعيش بين عدة مدن. حتى استقر بي المطاف بهذه المدينة السعيدة.
دارت كؤوس الخمر بين أيادينا. واسترسلت سوالف الحديث على ألسنتنا. في سرد الكلام العذب، حتى نال منا الكونياك والفينيكس وماء الحياة. وغبنا عن الوجود.
في الصباح جاء العرص حمادي إلى غرفتنا طرق. الباب ونادي على المعياضي:
- أريد جهاز الفونوغراف لأعيده إلى صاحبه.
قامت الرومية فحملت الجهاز مع لواحقه بلطف شديد وسلمته للعرص حمادي. قمنا وجمعنا أغراضنا، وودعنا نديماتنا، وغادرنا غرفة سلطانة. بالنسبة لي كمبتدأ فهذه أولى ليالي السهر والأنس.
قلت لصديقي المعياضي:
متى سنعيدها؟
فرد علي ساخرا:
- كيف ستبرر غيابك عن منزلك لهذه الليلة؟ وماذا ستقول لوالديك؟
- ليست هذه أول مرة أبيت خارج منزلنا. أجبته ضاحكا.
وعندما وصلنا نهاية المحرك قرب باب اعرابن. انتبهنا إلى أن أحدهم يتعقبنا. كان شابا طويل القامة. بشوارب معقوفة، وعينان مشتعلتان مثل اللهب. يرتدي سروالا من نوعزقندريسي وقميصا من البدعية وينتعل جزمة عسكرية. سأله المعياطي:
- لماذا تتعقبنا؟
فزمجر في وجهنا بصوت خشن مهددا مؤشرا بكلتا يديه إلى صديقي:
- من الآن فصاعدا لا تصاحب البنت الرومية؟-
ومن يكون سنسفيل الجد الذي خلفك؟
- السرغيني رجل أمك.
انقض عليه المعياضي، ومسك بتلابيب قميصه. وبدأ العراك بينهما فتبادلا اللكمات، وكلمات السب والقذف. اردت التدخل في المواجهة، فمنعني صديقي قائلا:-- انا اعرف كيف أتعامل مع هذه الأصناف البشرية. فجأة انضم اثنانمن رفقاء الشاب السرغيني إلى المعركة، فأشهر المعياضي في وجههما سكينا طويلة، من نوع بينيط الألمانية. التي توضع
كحربة في مقدمة البنادق القديمة. وصاح فيهم محذرا ومقسما بأغلظ الأيمان، بأنه
سيقتل من سيهاجمنا. ونحن على تلك الحالة من الهيجان والخطر. مر علينا أحد شباب تاودانوست الأقوياء الملقب ب أزگر من ذوي العضلات المفتولة. وكان يحمل معه عشرات من زجاجات من النبيذ الأحمر. فسأل المعياضي :-
ماذا يريد منكم هؤلاء الدخلاء؟
- لقد اعترضوا سبيلنا يا أزگر.
وقف بعض القرويين وبعض الصبية اليهود يتفرجون علينا. قال أحدهم:
- توقفوا عن العراك والعنوا الشيطان.
شد صعلوك تاودانوست المدعو أزگر نحوهم شدة قاتلة. ودارت بيننا وبينهم معركة حياة أو موت. أصبت بضربة موجعة على رقبتي. أما صديقي المعياضي ، فقد نالته ضربة حجر على ساقه. أما الشباب السرغينيون، فقد سقطوا مضرجين بدمائهم. ولم نشعر حتى حاصرتنا فرقة كبيرة مكونة من القوم والمخازنية والقلوغلية. تدخلوا وهم يسبون ويلعنون متوعدينا بالعقاب الشديد والمحاكمة. أمام مكتب القائد الگلاوي بالقصبة. استطاع المدعو أزگر بقوته أن يفلت من بين أيديهم. أما أنا والمعياطي وباقي السرغينيين فقد وقعنا في الأسر. ربطونا بحبال ثقيلة كما تربط أكياس المؤونة. ثم ساقونا نحو
سجن القصبة يتبعنا جمهور غفير من سكان المدينة.
نهاية الجزء الأول