هل افريقيا تكره امها فرنسا
بقلم : عبد اللطيف برادة
فرنسا اليوم أمام جيل جديد من الأفارقة أصبحوا واعين بتاريخهم، ومنفتحين على العالم، اكتووا بالحروب التي أشعلتها فرنسا في قارّتهم، وسئموا نهبها ثرواتهم لقرنين، وباتوا قادرين على تحمّل مسؤوليتهم بأنفسهم. كذلك فإن الشعوب الأفريقية فطنت إلى ازدواجية المعايير التي تستعملها فرنسا، عندما يتعلق الأمر بمصالحها. ففرنسا التي تدين الانقلابيين في مالي وغينيا وبوركينا فاسو هي نفسها التي تبارك الانقلابَين في تشاد ومصر وتزكّيهما، وتدعم دكتاتورية قيس سعيّد في تونس
و لهدا قد لقيت صورة فرنسا تدهوراً كبيراً في السنوات الأخيرة في القارّة السمراء ، اد ارتبطت هذه الصورة بالغطرسة وإعطاء الدروس لأن العقيدة القديمة للاستعمار التي تؤمن بالتفوق الحضاري والإنساني والأخلاقي للغرب ما زالت هي التي تتحكّم في قرارات فرنسية كثيرة بخصوص سياساتها الخارجية، خصوصاً مع مستعمراتها القديمة في أفريقيا، وهذه العقيدة هي التي تدفع فرنسا، مثلاً، إلى عدم الاعتراف بجرائمها في حقّ شعوب القارّة السمراء، وتماطل في الكشف عنها، بل وتستمر في ارتكابها حتى في عصرنا الحالي، كما حصل في تسعينيات القرن الماضي، عندما سبّبت باريس الإبادة الجماعية في رواندا وهكذا أصبح النفوذ الفرنسي في مستعمراتها الأفريقية يواجه تحدّياً كبيراً نتيجة أزمة ثقة حقيقة تراكمت طوال عشرات ألسنين جعلت شعوب هذه الدول تكره "أمها فرنسا"
فأغلب الدول الناطقة بالفرنسية، التي كانت مستعمرة سابقاً من فرنسا، تصنف اليوم من أكثر دول القارّة فقراً، وأقلها استقراراً، ما زالت تخضع لأنظمة سلطوية أو تتعاقب فيها الانقلابات العسكرية، فيما غالبية الدول الأفريقية الأكثر استقراراً، واقتصاداتها الأفضل أداءً، هي تلك الناطقة بالإنكليزية
يضاف إلى ذلك أن ميزان القوى في أفريقيا في طريقه إلى التغير، وقد عجّلت الحرب الروسية الغربية في أوكرنيا بإحداث هذا التغير بدخول قوىً عظمى مثل الصين والولايات المتحدة وروسيا، يجذبها التنافس على القارّة التي تقدّم أكثر الموارد المتجدّدة، وهذا أمرٌ لا يبشر بالخير لأفريقيا، لأن دولها لن تتأثر وحدها، بل سيتأثر العالم كله سلباً عندما تصبح القارّة السمراء، على الرغم من إمكاناتها الزراعية والاقتصادية ومواردها الطبيعية والبشرية، مسرحاً لصراعات النفوذ المستقبلية
ويبدو أن ما تعيشه فرنسا اليوم في أفريقيا أسوأ مرحلة في علاقتها بمستعمراتها السابقة في القارّة السمراء، فمن كان يصدّق أن تجرؤ دولة، مثل مالي، على طرد السفير الفرنسي من بلادها، أو أن يخرُج متظاهرون في بوركينا فاسو يرفعون شعاراتٍ تتهم فرنسا برعاية الإرهاب وقيادة الانقلابات في أفريقيا؟
وعلى المستوى الاقتصادي، تبدو خسارة فرنسا كبيرةً بسبب تراجع وجودها الاقتصادي في أكثر من دولة أفريقية، بما فيها تلك الفرنكفونية، أمام المدّ المتنامي للوجود الاقتصادي الصيني والبرازيلي والتركي. وقد انضمّت في هدا السياق دولتان، هما الغابون وتوغو، وهما عضوان ضمن الدول الفرنكفونية، إلى تجمّع الكومنولث لتلتحقا برواندا وموزمبيق اللتين سبقتهما إلى الانضمام إلى هذا التكتل الاقتصادي الأنغلوساكسوني الذي يضم المستعمرات البريطانية السابقة، ويفرض على أعضائه التزامها الواضح بقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان والحكم الرشيد. أما جمهورية أفريقيا الوسطى، فتسعى إلى التخلص من الفرنك الأفريقي، وقد تتبعها عدة دول أخرى، تتعامل بهذه العملة التي أنشأتها باريس لمستعمراتها السابقة، وجعلتها مرتبطة بعملتها السابقة، الفرنك الفرنسي، ويجري تداولها اليوم في نحو 14 دولة أفريقية، 12 منها من مستعمرات فرنسا السابقة
على الرغم من تصريحات رؤساء فرنسا -منذ فرانسوا هولاند إلى الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون- بضرورة مراجعة السياسة الفرنسية في أفريقيا، فإن الواقع فرض عناصر منافسة جديدة بدخول الصين وروسيا على خط التنافس
من جهتها، تتبع الصين سياسة عدم التدخل في الشؤون الداخلية، مع التركيز على مجال الاقتصاد والبني التحتية والقروض الميسرة، فوجدت قبولا في أفريقيا وأصبحت الشريك الاقتصادي الأكبر في وقت وجيز، وتفوقت على الولايات المتحدة والشركاء الأوروبيين، ويتوقع أن ترتفع استثمارات الصين إلى 500 مليار دولار تقريبا في 2025، هذا فضلا عن المساعدات غير المشروطة التي تدعم بها الصناديق المحلية في أفريقيا.
أما روسيا فعلى الرغم من العودة المتأخرة إلى أفريقيا، فإنها احتلت موقعا متقدما في الشراكات مع الدول الأفريقية، وأصبحت منافسا قويا على حساب المساحات التي كانت تتمدد فيها فرنسا وغيرها من الدول، فتقدمت في عدد من المجالات
قامت روسيا بإعفاء عدد من الدول الأفريقية 20 مليار دولار من الديون ألمستحقة فكانت بادرة حسن نية وعربون صداقة وهكذا أصبحت روسيا -في وقت وجيز- أكبر مصدر للسلاح لأفريقيا، مما يسد حاجتها في مواجهة النزاعات الأفريقية المزمنة وبشروط ميسرة (كانت روسيا مصدر 50 % من السلاح الوارد إلى أفريقيا في 2020
وقد توفر روسيا تدريبا للجيوش الأفريقية عبر شركة "فاغنر" التي تنشط في عدد من المجالات منها تقديم الحماية للمؤسسات والشخصيات والاستثمارات وقد لعبت الدعاية الروسية -عبر وكالة سبوتنيك ومحطة "روسيا اليوم"- دورا مهما في إضعاف صورة فرنسا أمام الرأي العام في أفريقيا، وقد شكت باريس مرارا وتكرارا من الدعاية السوداء ضدها