ظلت عيوني شاخصة في ظلام الليل. لم أجد النوم إليهما سبيلا. بعد أن سيطرت علي أفكار وهواجس درامية. ودخلت في سجالات داخلية. وتساءلت في نفسي، ماذا لو أراد القائد الگلاوي أن يستعيد هديته الثمينة؟ لربما أهداها له أحد الوجهاء القبليين. فسلمها لي من دون أن يطلع على محتواها. وإذا قام أبي بشراء متجر ومنزل بدمنات . ألن يثير ذلك انتباه عصابة ((السيابة)) ؟ فيأتون ليلا لمهاجمتنا بحثا عن الذهب. كما فعل البياز وأعوانه مع أحد الدمناتيين البسطاء. لما علموا من أحد الوشاة، بوجود قطع من الذهب في حوزته. فقاموا بالصعود إلى منزله بواسطة الحبال (( السلبة )) فسرقوا ماله غيلة وغصبا. وانفجر قلب المسكين حسرة ومات. أسئلة وكوابيس ترتعد لها فرائصي. بقيت تطحن في رحى دماغي دون توقف. حتى رفع الأذان لصلاة الفجر. نهضت من فراشي متعبا. أترنح كالسكران. أوقدت شمعة، وتناولت دلوا مملوءا بالماء. ثم توضأت وصليت. كان أبي قد ذهب للصلاة بمسجد القرية كعادته كل يوم. جلست على الكاطري أنتظر عودته. في هذه اللحظة، قامت خالتي سعدية نحو الباحة الخارجية للمنزل، وأوقدت النار بالتنور. سألتها عن حالة والدتي، فطمأنتني بتحسن حالتها. فحمدت الله في قرارة نفسي. عاد أبي من مسجد القرية، وهو يسبح لله في صمت. وضع سبحته بجانبي على الكاطري. ثم ذهب إلى الحظيرة، ليطمئن على البهائم. وشيئا فشيئا بدأ غسق الفجر ينجلي. ليفسح المجال لضوء النهار. مع أصوات الحيوانات، وتغاريد الطيور، وحركات الفلاحين وهي تملأ فضاء القرية. أقبلت خالتي سعدية حاملة قدر مليء بحريرة الشعير، المطعمة بالزعتر البلدي. مع صحن مفعم بالتين المجفف. وأثناء تناولنا لهذا الفطور الشهي. همست في أذن أبي قائلا:
- هات عشر قطع ذهبية نابليونية، لنعرضها على التاجر اليهودي ليفي بملاح دمنات .
فأومأ لي أبي برأسه موافقا. وقام إلى تخت المنزل، ففتح بابه. كانت بداخله بضع حبات من اليقطين، وأمرني بأن أحمل بقطينة كبيرة وأضعها على ظهر الدابة.وذهب للإتيان بقطع الذهب. سألته:-
-وما حاجتنا باليقطينة؟
فأجاب مبتسما:
- حتى إذا سألنا أحدهم بدمنات ، نجيبه بأننا جئنا لنبيع اليقطينة.
غادرنا منزلنا في جد ونشاط، نمشي بخطوات متسارعة. حتى وصلنا إلى الطريق الرئيسية المؤدية إلى حاضرة دمنات. وكانت في ذلك الصباح، مزدحمة بقوافل الفلاحين من سكان تاودانوست والقبائل المجاورة. كانوا يمتطون دوابهم، متجهين صوب دمنات، لقضاء أغراضهم وشراء مستلزمات بيوتهم. وعلى حين غرة، مر علينا ثلاثة فرسان فرنسيين فوق ظهور جيادهم. فشرع الفلاحون في تحيتهم:
- بونجور مسيو. بونجور مسيو.
وقام أحد الفلاحين بأداء التحية العسكرية لأحد الفرسان قائلا له:
- هذا تعظيم سلام لك، وتعظيم سلام لحصانك.
فأجابه العسكري بفرنسية سريعة، لم يفهم منها الناس شيئا. ثم ما لبث ان توقف جميع من في الطريق. عندما مرت سيارة المراقب العام الفرنسي، من نوع بوغاتي مكشوفة السقف. وكان يرتدي لباسا عسكريا أزرقا بأزرار ذهبية. تعرف أحد الفلاحين من دوار القنضرات على أبي. وأخذ يتبادل معه أطراف الحديث. فسمعت من ذلك الفلاح ما يفجع القلوب. حكى لأبي عن نفوق عدد كبير من أغنامه ودوابه. وعن فراغ بيته من المؤونة. قال هذا المسكين لوالدي:
- سأكون محظوظا إذا انتهى هذا العام وبقيت على قيد الحياة.
أما أنا فكان كل همي أن نصل إلى الملاح. لنبيع قطع الذهب للسيد ليفي. وأن أرى البنت اليهودية الجميلة حنا. ولما اقتربنا من باب إعرابن ، رأينا مشاهد حزينة، لأفراد من عائلات قادمة من ((أزغار)) .شبه عراة وحفاة الأقدام. تبدو عليهم أثار الجوع والمسغبة. يعترضون سبيل الفلاحين طلبا للمساعدة. أطفالهم يتأوهون ويصرخون. ونساؤهم يفترشن الأرض ويتوسدن الأسمال البالية بالساحة الخارجية لباب إعرابن . عبرنا بوابة باب إعرابن نحو داخل المدينة. لمحت من بعيد حانوت السيد لوازيس بائع الخمور. فسال لعابي على مشروب الكونياك والفينيكس. سمعت الفلاح الذي كان يحاور أبي ينبهنا بصوت خاطف:
- هان أسبايسي هان أسبايسي.
ولم يكد أبي ينتبه لتحذير هذا الفلاح، حتى وقف أمامنا عنصر من قوات السبايس. سأل والدي:
- ماذا يوجد بداخل (( الشواري ))؟
فقام والدي على الفور وفتح (( الشواري ))، فرأى السبايسي حبة اليقطين. وخاطبه والدي:
- الله يجيب للي يشريها من عندنا.
فرد عليه السبايسي بلطف:
- مولانا عوين.
دخلنا إلى حي الملاح اليهودي، عند مدخل مدينة دمنات. كان ذلك الصباح في ذروة نشاطه. عشرات من الزبناء، والتجار يملئون الممرات مثل خلية النحل. والتجار اليهود يشحنون البضائع فوق الدواب. وأصحاب الحرف من اليهود في حركة ونشاط. صانعو الأحذية منهمكون في عملهم. وأصوات ماكينات الخياطة لا تتوقف. سمعت خياطة يهودية تخاطب مساعدتها ساخرة:
- خفي يديك وديري خياطة أيت مديوال.
مطارق الحدادين تعجن الحديد عجنا. مصدرة أصواتا إيقاعية متناغمة. وبائعو خمر الماحيا يعرضون هذا المشروب في جرار وقوارير. طالبين من الزوار والعابرين أن يرشفوا ويتذوقوا ليتأكدوا من جودة المنتوج. فتذكرت صديقي المعياضي وخليلته الرومية بفندق إيشان. حوانيت الجزارين غاصة بالزبناء. متسوقون يتفرجون على صانع أحذية يهودي، أعمى وهو يعمل بسرعة وإتقان موزعا المسامير بدقة على حواف الأحذية مع طرقها بالمطرقة . وفي الركن الملاصق لكنيس اليهود، تتوزع حوانيت بائعي الكتان. حيث يوجد حانوت السيد ليفي بائع الأقمشة المشهور بالملاح. كان يجلس على كرسي فخم. مرتديا جلبابا من نوع مليفة إنجليزية. بقلنسوة حمراء على الرأس. ووجه ممتلئ، وعينان مشعتان. حييته فرد علي قائلا:
- مرحبا بكم يا أهل تودانوست الطيبين. أنا في خدمتكم.
قلت له:
- جئناك بيقطينة كبيرة وطازجة. ستجد بداخلها بعضا مما وجدته بالخنجر.
فهم السيد ليفي المقصود. وقام على الفور بإغلاق دكانه. وتقدم أمامنا مفسحا لنا الطريق. حتى إذا وصلنا أمام بيته وسط الملاح. قمت بإنزال اليقطينة من على ظهر الدابة. فيما قام أبي بربطها بصخرة. ولجنا إلى داخل منزل السيد ليفي. وجلسنا على أريكة جلدية. قال ليفي مرحبا بنا :
- هذا يوم عظيم.
ناوله أبي قطع الذهب النابوليونية العشرة. فسأل والدي:
- هل عندكم منها الكثير؟
أجابه والدي:
- هذا هو الموجود في الوقت الراهن.
ولما انتهى السيد ليفي من فحص القطع الذهبية العشرة وتأكد من جودتها قال:
سأعطيكم مقابلها 5000 فرنك.
فرد عليه والدي:
- جئناك بعشرة دبلونات وليس بخمسة بصلات.
هذه القطع تستحق أكثر من هذا المبلغ يا ليفي.
رد علينا ليفي:
- لا بأس سأضاعف المبلغ ليصبح 10000 فرنك.
دخلت علينا زوجته الجميلة، حاملة صينية نحاسية عليها كؤوس من الشاي، مع زبدية من العسل.
- تفضلوا ياالتاودانوستيين (( نتشاركوا معاكم )) الطعام.
قال لنا السيد ليفي مبتسما. مددت يدي لأتناول كأسا من الشاي فمنعني والدي. قالت لنا زوجة ليفي مرحبة:
- مرحبا وألف مرحبا بناس تاودانوست العزاز.
نظر أبي في وجه السيد ليفي وقال له بحزم:
- أعطيني 20000 فرنك والله يربحك.
- بزاف بزاف يا تاودانوستي.
رد علينا ليفي مقطبا جبهته.
- وشاحال للي ما بزاف يا ليفي؟
قلت له بهدوء. وقف والدي متأهبا للمغادرة وطلب من ليفي أن يعيد إليه القطع الذهبية قائلا:
- أعد لي قطعي الذهبية يا ليفي. لأن مكان بيعها هو بمراكش أو الدار البيضاء.
فقال له هذا الأخير:
- لا واه خذها لسويسرا. اقعد اقعد للأرض اتاودانوستي شحال قاسح .
دخل السيد ليفي إلى عمق بيته. وبعد لحظات عاد وفي يده مبلغ 20000 فرنك. سلمها لوالدي عدا ونقدا. فضرب أبي بكفه على كف ليفي قائلا:
- الله يربحك يا ليفي.
تناولت كأس الشاي بالعسل. فكان أذكى وألذ كأس شاي شربته في حياتي. وتساءلت لماذا يعشق المسلمون شرب الشاي بالسكر. في حين يفضل اليهود شربه بعسل النحل.وعندما هممنا بمغادرة منزل السيد ليفي. دخلت علينا ابنته الجميلة حنا، رفقة شابة يهودية من جيرانهم. فغمزتني حنا بعينها اليسرى، مبتسمة ابتسامة عريضة، ظهرت منها نواجدها البيضاء. ودعتنا زوجه ليفي بدعوات الخير والبركة منوهة بنا:
- هذا بيتكم تعالوا إليه في أي وقت تشاؤون. لأن مكانتكم في العين والقلب.
والسيد ليفي يوصي أبي بإلحاح:
- أنا في انتظار قطع الذهب الأخرى.
- -إن شاء الله.
رد عليه أبي بابتهاج. غادرنا منزل السيد ليفي متجهين صوب الدكاكين التجارية بزنقة الزيواني . هناك انتقى أبي كل ما لذ وطاب من السلع المطلوبة للمعيشة. من شاي وزبيب، وسكر وحلويات، وتمر ولحم. وبعض من الأغراض الأخرى كقطع الصابون وقراطيس الشمع، والحناء، وكحل العين والتوابل. حتى امتلأت كفتا (( الشواري )) عن آخرها. وقفلنا عائدين، لا تكاد الأرض تسع لفرحتنا. رفع أذان صلاة الظهر. عندما وصلنا مشارف وادي مهاصر. نزل أبي إلى ضفة الوادي، فتوضأ وصلى. واستأنفنا المسير. قال لي أبي ضاحكا:
- عليك أن تعلم بأن اليهود يعبدون الذهب. ويحترمون من عنده الذهب، حتى لو كان من أرذل الناس.
وأضاف ساخرا من دعوات زوجة ليفي:
- زوجة ليفي لم تكن تقصدنا في دعواتها. بل كانت تقصد معدن الذهب الذي يسكن روحها.
أما أنا فقد سيطرت على بالي، غمزه البنت الفاتنة حنا. وأضرمت النار في قلبي. وتركت فيه حفرة عميقة. وجعلتني لا أفكر في شيء سواها. وتساءلت في داخلي، ماذا تريد مني حنا بغمزتها؟ هل غمزتني طمعا في الذهب؟ هل تستدرجني إليها طمعا في أمر لا أعلمه.؟ وصلنا إلى منزلنا بالقرية. ساعدت أبي في نقل المشتريات إلى داخل المنزل. كانت والدتي جالسة على الكاطري. سألتني بصوت تتخلله حشرجة:
- هذه مشتريات كثيرة تبارك الله.
أجبتها قائلا:
- نعم يا أمي، كل هذه الأغراض اشتريناها من مدينة دمنات.
ساعدت خالتي سعدية في ترتيب الأغراض بداخل تخت المنزل.اما أبي فقد استلقى على حصير في (( أغدمي )) ليستريح. وأنا صعدت إلى غرفتي بتامصريت. استعرض مفاتن البنت الفاتنة حنا. حتى كدت أراها مثل طيف واقفة أمامي. ووجهها يلوح لي على درجات السلم. وعلى زبدية الفطور. على الأرض وعلى الشمس، وفي القمر. فقررت ما أن تشرق شمس الغد حتى اذهب لرؤيتها.
في الصباح الباكر دلفت إلى ثقب في جدار المنزل. كان والذي قد خبأ فيه هدية القائد. تناولت خاتما ذهبيا مرصعا بالياقوت الأخضر، ووضعته في يدي. لأعرضه على أحد الصاغة اليهود بالملاح. لاحظت أن والدتي قامت لتساعد خالتي سعدية في تهيئ وجبة الفطور. لقد استعادت عافيتها ولله الحمد. بعد تجهيز الفطور، تحلقنا حول المائدة. وتناولنا حريرة الشعير المطعمة بالزعتر. قبلت يد والدتي، ويد والدي، واستأذنتهما للذهاب في جولة بأيت معياض. فطلبت مني والدتي، ألا أتأخر عن حضور وجبة الغذاء. قصدت ضيعة السفرجل والبرقوق الواقعة عند مشارف عين تشاطت. ولما وصلتها ملأت السلة عن آخرها بهاتين الفاكهتين. ومثل الثعلب الجائع عبرت البساتين والحقول بسرعة. حتى وصلت إلى حي الملاح اليهودي. فتحلق حولي الكثير من اليهود يستفسرونني عن محتوى السلة. فأزحت أوراق الكروم عن السلة وقلت لهم:
- هذا سفرجل وبرقوق، جئت به إلى السيد ليفي. وصلت أمام بيت السيد ليفي. وكانت البنت الفاتنة حنا منهمكة في كنس عتبة منزلها وهي تدندن:
- هاكا ماما عطي لماما.
ترتدي تنورة قصيرة، وسروالا وصدرية مطرزتين بخيوط من الصقلي الذهبية. مع خلخال فضي في كاحل قدمها. ناديتها بصوت منخفض:
- حنا حنا.
التفتت إلي وما أن رأتني حتى أحمر وجهها. سألتني:
- ما الذي أتى بك هذا الصباح؟
ناولتها سلة السفرجل والبرقوق وقلت لها بلطف وأدب:
- هذه هدية من الضيعة. قطفتها لكم خصيصا هذا الصباح.
تناولت السلة من يدي ووضعتها على عتبة منزلها. ثم دخلت إلى غرفك المتلاشيات خارج منزلها. تعقبتها على الفور. همست في أذني:
- قل لي بصراحة، أما يزال عندكم الكثير من قطع الذهب؟
أجبتها مستغربا:
- الله اعلم يا حنا .
فردت علي:
-أبي جاهز لشراء كل ما عندكم من قطع ذهبية. وبأي ثمن تريدون. ورجاء لا تبيعوا الذهب لأحد غير والدي ليفي.
تعمدت حنا الاقتراب مني حتى حشرتني في زاوية ضيقة. لم أستطع مقاومة إغراءها واحتكاكها بجسدي. ووقعت معها في المحظور. لم أتمالك نفسي. فكانت لحظات سعادة لا تنسى. مرت بلمح البصر. وأنا ما زلت لم ألتقط أنفاسي، مدت حنا يدها إلى يدي ونزعت منها الخاتم الذهبي المرصع بالياقوت. ووضعته في يدها. وأنا صامت جامد في مكاني مثل الصنم. لاحظت حنا شدة تعلقي بها فأمرتني قائلة:
- في المرة القادمة سأمنحك كل ما تريده، بشرط أن تأتيني بقطع من الذهب والمجوهرات.
أجبتها منتشيا:
- الخاتم الذي نزعته من يدي هو خاتم غالي الثمن.
في هذه الأثناء، سمعت نداء أمها فهرعت مسرعة نحو منزلها. وبعد لحظات خرجت هي وأمها. قالت لي مدام ليفي مبتسمة:
- في المرة الجارية جيب معارك تيموما وتيفراخ.
- إن شاء الله يا مدام ليفي.
قلت وقلبي يتقطع حسرة على الخاتم الذهبي الذي سلبته مني حنا في لحظة نشوة عابرة. أدرت ظهري لهما مودعا . وغير بعيد عن منزل حنا. سمعت صوتا أنثويا يناديني:
- تعالى يا التاودانوستي.
فالتفت إلى مصدر الصوت. وإذا بي أمام بنت فارعة الطول جميلة الوجه. ترتدي تشاميرا أبيض شفافا وتلف عنقها بشال أحمر. سألتها:
- من أنت؟ وكيف عرفت اسمي؟.
فردت علي بجرأة محدقة في وجهي بعيون مثل الصقر:
- أنت صديق حنا ليفي. لقد سمعت كل ما دار بينكما من كلام.
ودون أن أنبس ببنت شفة. تركتها مسرعا مثل هارب من طوفان. فتعقبتني قائلة:
- مماذا تخاف يا تاودانوستي. أنا أيضا أعطيني الذهب وتكمو في حتى لتيبضين