تعيش القيادة الجزائرية حالة يُتمٍ، بعد وفاة أحد أهم المؤثرين فيها، الجنرال خالد نزار.. تتبدَّى تلك الحالة من خلال ما يُشبه وُجوما سياسيا يعتري تحركات تلك القيادة. الجنرال ترك فراغا في المجموعة التي تقود البلاد، فهو كان من أعمدتها، إلى جانب الجنرال توفيق رجل الأمن النّافذ. وهما معا اسْتُرجِعا للقيادة العسكرية الفعلية للجزائر، بعد حكمٍ بالسجن وسنواتٍ من المنفى في الخارج في حالة الجنرال نزار، وبعد اعتقال وحكم بالسجن في حالة الجنرال توفيق، للحاجة إليهما واستماتتهما في صون “مكاسب القيادة” في الدولة، وأيضا في مواجهة المعارضة، المدنية والإسلامية.. ولأنهما يلعبان ورقة الالْتحاق بجبهة التحرير الوطني، في السنوات الأخيرة من حربها ضد الاستعمار الفرنسي، وهو ما يُعزّز سُلطة الجيش، موَظفا “ذاكرة” الكفاح الوطني لتحصين تملكه للتدبير السياسي للدولة.
جفّت تلك الذاكرة، بعد سنوات من استنزافها، ويزيد من جفافها تواصُل تَوَغُّلها في الماضي، بما يشلُّ فعاليتها في الحاضر. ستون سنة ضخَّت في البنية الديمقراطية الجزائرية أجيالا جديدة، مُنصرفة إلى الكفاح من أجل حياة الكرامة، في أبعادها السياسية والمعيشية، وتؤطر كفاحها اليوم بشرعية المُنجزات، ولا علاقة لها بشرعية البُطولات الكفاحية ضد الاستعمار. ولديْها، اليوم، خُصومة مع مُدبِّري بُؤْسها الحياتي، وخَصاصاتها المادية والمعنوية، السياسية والاجتماعية.. المدبرون الذين استعملوا الذاكرة الوطنية دِرعا سياسيا لعقود من هيْمنتهم على الدولة.
وُجومُ تلك القيادة فاقَم منه سقوط حساباتها وتمنياتها بخصوص ترشّح المغرب لرئاسة مجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة. اعْتمدت على ترشيح جنوب أفريقيا لتبديد كل إمكانية لفوز المغرب بتلك الرئاسة. لن تستوعب تلك القيادة أن ينال المغرب ثقة أغلبية أعضاء المجلس الأممي لرئاسته. هي شهادة دولية ناصعة وقاطعة على استواء المنجز الحقوقي المغربي وعلى أهليته في رئاسة المجلس الأمَمي، والذي من مهامه حثُّ الدول على احترام حقوق الإنسان، ومن ضمنها دولة الجزائر.
قيادة الجزائر أنْفقت المَلايين من الدولارات لكيْ تُجنّد من يُحاول “تلطيخ” المنجز الحقوقي المغربي، ولكن بلا فائدة، وبالضرر المُوجِع لقيادة الجزائر. لأن المقارنة بين المغرب والجزائر، يفرضها التَّماس الجُغرافي بين البلدين، وتقود إليها الادِّعاءات الإعلامية والسياسية الجزائرية، ضد المغرب، والتحذلق على الجزائر.
وقد غَلَّب إحراز المغرب رئاسة المجلس المقارنة لصالحه، وبأشواطٍ وبالفارق الكبير في الأصوات. وهي أصوات 29 دولة باركت رئاسة المغرب للمجلس، وهاجمتها صحافة الجزائر وكالت لها تُهما من منتوج خيبتها بالتعميد الدولي للمغرب ريادة الممارسة المنتصرة، المبلوِرة والمرسِّخة لحقوق الإنسان، سياسيا واجتماعيا وثقافيا في المغرب. وصدمتُها الكبرى هو أن المغرب بتلك الرئاسة يُقوِّي مَوْقعه التفاوضي الدبلوماسي العالمي، انتصارًا لقضيته الوطنية ودفعًا داعما لمشروعه النهضوي الجاري، بما يُعبّئ ذاكرة حاضره بالمنجزات التي تفتح له مسارات واصلة إلى مستقبله.
هناك في الجزائر، القيادة العسكرية، أصابت البلد بالكُساح، من حيث هي مُنشغلة فقط بمنجزات المغرب وتُراكم العجز على مُلاحقتها… ولكنها مهوُوسة بالرفع من رصيد الماضي في مُوَجِّهاتها السياسية لطمْس آثار الدّمار في حاضر البلد… الرئيس الجزائري، المكلف، عبد المجيد تبون، سنة كاملة وهو جالس في موقع المُنتظر لإشارة من الرئاسة الفرنسية باستعداد الرئيس الفرنسي لاستقباله. سنة 2023 بكاملها، وإيمانويل ماكرون لاهٍ بالتعاطي مع تعقيدات الوضع الداخلي الفرنسي، ولا يبدو أن مَوْعد الزيارة قد اقترب. التحضير لسفر تبون إلى فرنسا نشط مؤخرا، حسب تصريحات وزير الخارجية الجزائري. الطرفان يبحثان القضايا موضوع الزيارة، وفي مُقدمتها مسألة “الذاكرة”، ها قد عثرنا عليها هُنا أيضا، والطلب الجزائري باستعادة سيْف الأمير عبد القادر وبرنوسه من “الاحتجاز” الفرنسي.
التعاون الاقتصادي وموضوع التأشيرات، لا يبدو أنهما يطرحان صعوبات في التناول.. القيادة الجزائرية يشغلها أكثر فتح ملف “الذاكرة” مع فرنسا، وهو مِلف لا تجد النّخبة الفرنسية نفسها مُنْجذبة إليه. وقد غالب الرئيس ماكرون نفسه حين أسّس لجنة فحص “الذاكرة”، ولعلّ ذلك هو أقصى ما يمكن فعله، أما سيف الأمير وبرنوسه، قد أُشْعر الطرف الجزائري بضرورة صدور قانون من الجمعية العامة يُقرر تسليمهما للدولة الجزائرية. ومن المستبعد أن يصدر ذلك القانون في القريب من السنوات.. وقيادة الجزائر مُستعجلة في ذلك لحاجتها إلى تغذية “الرصيد” الكفاحي الذي تستند عليه في إدارة الدولة الجزائرية.. وهي الدولة التي تُعيقها قيادتها على النظر في الواقع والتعاطي مع حاجات المستقبل، بدل استهلاك الذاكرة، الذي يحجب الوعي بنداءات الحاضر.
ولن أُبالغ إذا زعمتُ بأن المغاربة، لو طُرح عليهم الأمر، سيساندون القيادة الجزائرية في مطلبها باستعادة سيف الأمير عبد القادر وبرنوسه، لأنها مسألة كرامة وطنية وهي من مُقتضيات استكمال الاستقلال الوطني للجزائر. والمغاربة الذين كافحوا من أجل استقلال الجزائر، وكانوا لجبهة التحرير سندا فعليا ومعنويا وبحماس، لن يتأخروا في مُوَاصلة دعمهم لاستكمال استقلال الجزائر، لأن ذاكرتهم مِلؤُها الوفاء، وهي بلا هوس وليس فيها انتقائية. حتى والسادة في قيادة الجزائر مسحوا من ذاكرتهم الحضور المغربي في الكفاح الجزائري. وطبعا هوس الذاكرة يُحدث فيها أعطابا، وعطب الإخوة في ذاكرتهم مع المغرب فادح ومأساوي.. والمغاربة يأمُلون في أن تكون الذاكرة المشتركة مَعْبَرا لمستقبل مشترك، ومسارا مفتوحا للأمل المغاربي المشترك.
عن “العرب” اللندنية