تاريخيا نظم المغرب مهنة المحاماة أول مرة وفق مقتضيات قانونية يؤطرها ظهير 10 يناير 1924 المتعلق بمزاولة مهنة المحاماة وهيئة المحامين، وقد دأبت مؤسسات الدفاع منذ البداية على تطوير المهنة وفق المتغيرات السوسيوالإقتصادية، والمهنية.
وقد كان آخر تعديل وتتميم للمقتضيات المنظمة للمهنة سنة 2008 حيث صدر القانون رقم 08 . 28 المتعلق بتعديل القانون المنظم لمهنة المحاماة، وإلى جانبه صدر القانون رقم 08 . 29 المتعلق بتحديد الإطار القانوني للشركات المدنية المهنية للمحاماة.
فهل كان المشرع ذا نظرة استباقية عندما نظم الشركات المدنية المهنية للمحاماة، واستوعب أن المهنة في مسار تحولها إلى صناعة في حاجة لشركات لاحتوائها؟
بداية إن مفهوم الصناعة في الاصطلاح الحديث، يشمل تقديم أي خدمة أو منتج مقابل ربح.
وعليه نقول نعم، يُعتبر مصطلح “صناعة المحاماة” مُناسبًا لوصف هذا المجال حاليا، فعلى الرغم من أن المحاماة تعتبر مهنة تقليدية تمتد جذورها إلى القرن الخامس قبل الميلاد مع الخطيب الأثيني أنتيفون “Antiphon” في بلاد اليونان، إلا أنها شهدت تحولات كبيرة في العصر الحديث يكون من المنطقي تسميتها بصناعة.
تعتمد هذه الصناعة على قيام المحامون بتحويل المعرفة والمهارات القانونية التي يمتلكونها إلى خدمات قانونية، والتي تشمل ليس فقط التمثيل القانوني في المحاكم وإعداد الوثائق القانونية، بل أيضا الاستشارات القانونية والتحكيم والوساطة والتفاوض، والعديد من الخدمات الأخرى التي تقدمها الشركات والمكاتب القانونية للزبناء الذاتيين والمعنويين، وتعدت ذلك إلى توفير خدمات اليقظة القانونية، ويعتبر مكتب المحاماة الأمريكي (Kirkland & Ellis) الأقوى عالميا في هذا المجال.
وبدراسة الحالة المغربية يسجل أن الإقبال على تأسيس الشركات المدنية للمحاماة ضعيف، ويسجل أن من تلك الشركة من تعتمد مبدأ التخصصات، وتحترف مجال الإستشارات بمنصات رقمية متاحة ومتطورة تساير الوقت الراهن عدد يحسب على أصابع اليد الواحدة، بالرغم من ان عدد المحمين الممارسين في المغرب يصل إلى 14.488 محامي “حسب إحصائيات وزارة العدل المصرح بها من خلال الموقع الرسمي لوزارة العدل بتاريخ 4/6/2024”.
إن الواقع يؤكد أن مهنة المحاماة في المغرب لازالت تعاني من حيث الممارسة من التمسك بالأساليب التقليدية، ودون تعميم فإن هذا الوضع مرده أولا للتمثلات الذهنية للمتقاضين التي يغيب عنها ثقافة التخصص، ويغلب عليها في الإختيار المعرفة المسبقة بالمحامي عند اللجوء إلى خدمات مكاتب المحاماة، ذهنية غير قادرة على استيعاب إيجابيات اليقظة القانونية.
في مقابل ذلك لازال أغلب المحامين يغيب عنهم أسلوب العمل الجماعي، والبعض منفصل عن تطور الأبحاث العلمية، وغير مرتبط بالمطلق بالبحث العلمي في مجال القانون حيث يعتمد على ما يكتسبه من مهارات من خلال الممارسة، دون تقويتها بتقنية التمسك بالبحث العلمي في مجاله، وبعيدون أيضا عن تقنيات الثورة التقنية التي بدونها لن نشهد للمحاماة بالمغرب تطورا خارج النسق التقليدي.
إن هذا الوضع سيصطدم قريبا بتحولات لن يحتملها إلا من اقتنع بأن المحاماة صناعة تعتمد على البحث العلمي وتطوير آليات العمل، واقع سينتج عن الإنفتاح الكبير للمغرب على الإستثمارات الأجنبية، وفتحه لأوراش إقتصادية كبرى، والتي ستفتح الباب لشركات المحاماة الأجنبية لتخترق السوق المغربي، ولن تصمد أمامها الكيانات الصغيرة المشتغلة في المجال، ولن تكون مهنة المحاماة تمارس بقواعدها وقوتها إلا من طرف الكيانات الكبيرة، وغيرها سَيُصَنّف ضمن من يمارس المهنة، كمهنة معيشية وليس كما يجب أن تكون عليها.
أقصد بقولي أن المحاماة لم تعد مجرد مهنة تقليدية، بل أصبحت صناعة تتطلب التخطيط الاستراتيجي والابتكار والتكنولوجيا، لتلبية احتياجات العملاء وتحقيق النجاح في السوق المتنافسة.
ولتدعيم ذلك فإننا وإن إعترفنا للمشرع أنه كان ذا نظرة إستباقية عندما فتح المجال لـتأسيس شركات محاماة، فإنه أصبح الآن مدعو لإجراء تعديلات تُجَهّز الأرضية لتأسيس شركات مهنية قادرة على تطوير نفسها، وعلى مواكبة التحولات المتسارعة التي تنشئ أنماطا مختلفة من النزاعات والزبناء.
أصبح من اللازم إلغاء شرط الانتماء لنفس الهيئة قصد تأسيس شركة محاماة، إذ تنص المادة 2 من القانون 29.08 على أن يكون كل الشركاء في الشركة محامين مسجلين في جدول نفس الهيئة، وبالتالي من الأفضل السماح بتأسيس شركة من طرف محامين منتمين لهيئات مختلفة.
كما أن المشرع الجبائي مدعو إلى تحفيز المحامين للاتجاه نحو تأسيس تكتلات جماعية، من خلال منح امتيازات ضريبية للشركات المهنية التي يتم تأسيسها، في الحد الأدنى خلال سنواتها الأولى، وكذا إفراد إعفاءات جمركية استثنائية عن التجهيزات المكتبية والتقنية المستوردة لتجهيز مقرات الشركات.
كما أن على الدولة الدفع في هذا الإتجاه من خلال إلزام هيئاتها ومؤسساتها بعدم تنصيب محامين في قضاياها إلا إ ذا كان يشتغل في إطار شركة محاماة.
إضافة إلى ذلك يجب التوسع في أشكال الشركات التي يمكن ان تؤسس في إطارها الشركة المهنية للمحاماة، وعدم الاقتصار على شكل الشركة المدنية فقط، وهذا ما أصبح معمول به في عدد من الدول المقارنة في المجال، حيث ظهرت عدة شركات للمحاماة في شكل شركات متعددة الجنسيات، وشركات محدودة المسؤولية، وكدا مجموعات ذات منفعة اقتصادية.
أخيرا أقول المحاماة أصبحت صناعة احترافية، ومعها أصبحت الشركات المهنية للمحاماة ضرورة في البيئات القانونية والتنازعية الحديثة، فمع تعقيدات القوانين والأنظمة القانونية المتزايدة، فضلاً عن التطورات التكنولوجية التي تؤثر على العديد من جوانب ممارسة المهن القضائية والقانونية، أصبح من الضروري على المحامين العمل معًا ضمن هياكل مؤسساتية أكبر لتقديم خدمات قانونية شاملة وفعالة، وقادرة على المنافسة الحالية والقادمة.