بأية حال عدت ياصيف ؟
قلم: : محمد كرم
أبى أحد أصدقائي مؤخرا إلا أن يتقاسم معي مشكورا مقالا إخباريا ليس فقط بهدف إطلاعي على مضمونه و إنما لغاية انتزاع رأيي في موضوعه أيضا مع الدفع بي بشكل غير مباشر إلى التفكير في تحرير تعليق شخصي قابل للنشر على الرغم من اقتناعه ـ كغيره من القراء ـ بأن مقالات الرأي لا تؤثر على مجرى الأحداث في الغالب و بأنها تظل شهادات على العصر ليس إلا. و طبعا ما كان لهذا المنشور أن يسافر بسرعة البرق لو لم يكن به ما يشد الانتباه إيجابا أو سلبا.
المنشور موضوع مقال اليوم عبارة عن لائحة خدمات و الأسعار المقابلة لها، و هي تهم مؤسسة متخصصة في نوع معين من الترفيه و تتخذ من مدينة ساحلية مغربية مقرا لنشاطها و لم تفتح أبوابها إلا في الآونة الأخيرة بعد أن حظيت بتدشين شبه رسمي.
و مما لا شك فيه أن هذا المشروع الاستثماري تطلب أموالا طائلة و خضع لهندسة رصينة و حسابات دقيقة، و لكن لا أعتقد بأنه بالإمكان إدراجه ضمن المشاريع التنموية المستدامة بما أن نشاطه موسمي فقط و خدماته لا تمون سوقا و لا تبني عقلا و لا تنقذ حياة، إذ لا فرق بين إحدى هذه الخدمات و الوقوف تحت المطر أو تحت شلال طبيعي، و لا فرق بين خدمة أخرى و السباحة في أي نوع من المياه الحلوة أو المالحة أو الخاضعة للمعالجة أو التدوير. أما التدبير اليومي للمشروع على امتداد ثلاثة أشهر في السنة على أقصى تقدير فلا يتطلب غير مادة أولية مجانية ( ماء البحر) و طاقم محدود من المسيرين و المراقبين الشباب الذين لن يترددوا يوما ما في التخلي عن وظائفهم البسيطة للانقضاض على فرص عمل حقيقية بمجرد الإعلان عنها.
كنت سأتفهم الجدوى من هكذا استثمار لو استهدف أصحابه مدينة داخلية يكتوي أهلها بلهيب شمس الصيف و محرومون من مجرد النظر إلى البحر و أمواجه، أما و أن يعمد مستثمرون إلى إعادة خلق ما يشبه البحر بمحاذاة بحر حقيقي فهذا أمر لا يختلف عن إعادة اختراع العجلة و يتطلب دراسة سيكولوجيا الزبناء أولا و يذكرني بملاحظة أسر لي بها ذات يوم أحد الفرنسيين ممن اختاروا قضاء فترة تقاعدهم بمملكتنا حيث قال لي : "أنا عاجز عن فهم إقبال المغاربة و بكثافة على عصير البرتقال الصناعي في بلد تمتلئ أسواقه بالبرتقال الطبيعي !"
و على أية حال، أنا لا تهمني طبيعة الاستثمار إياه ـ و هو استثمار خاص لا مجال لإلقاء اللائمة على الدولة بشأنه و لا أملك شخصيا غير الدعاء لأصحابه بأن يجعله في ميزان حسناتهم ـ بقدر ما تهمني الأسعار المطبقة. فعلى الرغم من بساطة الخدمات المقدمة ـ إن لم أقل تفاهتها من منظور رجل راشد و ملقح و حامل لشهادة البكالوريا (!!) ـ و على الرغم من إمكانية الاستفادة من متع مشابهة بمواقع أخرى مجانا أو بتكلفة أقل حجما بكثير ارتأى حكماء المشروع تحديد ثمن ولوج المركب المائي في مبالغ تختلف باختلاف الأوضاع السوسيو اقتصادية للزبناء المحتملين و هم يعلمون علم اليقين ما يمكن لهذا التصنيف أن يخلقه من امتعاض و إحراج في صفوف العديد من الآباء الذين يضطرون للرضوخ لضغوط صغارهم و يافعيهم المتلهفين لهذا اللون من الترفيه.
و في ما يلي مربط الفرس، أي هذا ما ينتظر كل من سولت له نفسه إقحام رأسه بشباك التذاكر :
أولا : طبقة الزبناء "الشعبيين"
الأسعار تتراوح بين 140 درهما و 275 درهما.
ثانيا : طبقة الزبناء "المميزين"
الأسعار تتراوح بين 200 درهم و 330 درهما.
ثالثا : طبقة الزبناء "فوق العادة"
الأسعار تتراوح بين 300 درهم و 430 درهما.
اللائحة تتضمن خدمات منها ما قد يستسيغه العقل، و منها ما هو أقرب إلى الخزعبلات من أي شيء آخر ... هذا مع العلم ـ و هذه معلومة في غاية الأهمية ـ بأن الأسعار المذكورة تطبق خارج مواسم الذروة فقط !!!!!!!!!!!!!! (و لك أن تتصور، عزيزي القارئ، حجم الزيادات المطبقة خلال فترات الاكتظاظ إضافة إلى المصاريف الإضافية التي ستتفنن إدارة المؤسسة في ابتكارها و استخلاصها و خاصة عندما يكون استهلاك السندويتشات المحضرة بالبيت و المشروبات المقتناة من خارج المركب ممنوعا على تراب نفوذها ! و لك أن تتصور أيضا هول الإفلاس الذي سيطال وضعك المالي في حال ألحت فلذات كبدك على معاودة التجربة مرات و مرات !!! )
و كما يتضح من خلال الأرقام الواردة أعلاه، فإن الأسعار المعمول بها لا تعكس إطلاقا حقيقة الأوضاع الاقتصادية للبلاد التي أصبح الحد الأدنى للأجور بها (ما يفوق 3000 درهم بقليل) لا يختلف كثيرا عن قيمة مصروف الجيب. هناك اليوم موظفون و أجراء محترمون بتاريخ مليء بالعطاء و الإنجازات لم يسبق أبدا لقدراتهم المالية أن أهلتهم لولوج مطعم نصف فاخر أو للنزول بفندق نصف مصنف. و هناك عمال مناضلون و مكافحون لم يعد بإمكانهم اليوم مجرد الاقتراب من الزيتون (الذي شكل طعام الفقراء المضمون ببلدان حوض البحر الأبيض المتوسط لآلاف السنين) و يحلمون سنويا بذلك اليوم الذي ستلغي فيه الحكومة شعيرة عيد الأضحى مؤقتا أو بصفة دائمة (!!!!!).
الفقر ليس عيبا لا على المستوى الشخصي و لا على المستوى العائلي و لا حتى على مستوى الوطن. العيب كل العيب أن نلعب دور الأغنياء على ركح مهترئ و أمام جمهور يعرف حقيقتنا. للأسف، هذه المقاربة لا يتبناها معظم الأطفال و يرفض استيعابها الكنثير من المصابين بجنون العظمة في صفوف البالغين.
فهل تعود هذه الأسعار إلى اعتبارات علمية و تستند إلى حسابات رياضية مضبوطة أم أن الواقفين وراء تحديدها يعلمون فقط بأن ثمة شريحة مجتمعية (قد تكون كبيرة أو صغيرة) لا يجد أفرادها صعوبة تذكر في مراكمة الأموال و بأن هذا الصنف من الزبناء هو المستهدف في المقام الأول ؟ و بأي منطق ستتمكن عائلة عادية و محترمة و مستورة من صرف 1000 درهم في المعدل بمرفق ترفيهي كهذا و لمدة قد لا تزيد عن نصف يوم ؟ ماذا جرى لعقول البعض حتى يصرف مبلغ بهذا الحجم في مقابل التعرض للبلل مع ما يرافقه من التقاط حتمي للصور و السيلفيات ؟
و اللافت أيضا في ذات اللائحة أن الأسعار مصنفة كذلك على أساس جنسية الزبون ما يعطي الانطباع بأن القائمين على المؤسسة إياها وطنيون حتى النخاع و رحماء بجيوب "أولاد البلاد"، لكن عندما ندقق النظر في الفروق الموجودة بين الأسعار المطبقة على الأهالي و تلك المطبقة على القادمين من موناكو أو سويسرا أو الدوحة ـ و هي فروق جد طفيفة ـ يصبح من الطبيعي التساؤل بخصوص الجدوى من اعتماد تصنيفين في تحديد واجبات الولوج خاصة عندما نعلم بأن ثمة متاحف و مسارح و مرافق ترفيهية أخرى مختلفة بالكثير من الوجهات السياحية عبر العالم يؤدي الأجانب على أعتاب أبوابها ضعف ما يدفعه الزوار و الزبناء المحليون.
إنه المفهوم الجديد و المبتكر للسياحة الداخلية ببلادنا !
ختاما، و تأسيسا على ما خبره المغاربة من تدهور مهول للقدرة الشرائية، و بعد كل ما عايناه هذه السنة بأسواق الغنم من نطح و نطح مضاد ، ها نحن بدأنا نتعرف على جديد المنتجعات السياحية الوطنية ... في انتظار الوقوع مرة أخرى بين فكي كماشة الدخول المدرسي. كل المؤشرات توحي إذن بأن أجواء صيف هذا العام ستكون حارة إلى شديدة الحرارة و ستظل كذلك حتى إشعار آخر ... و "للي ما ماعوش ما يلزموش"، على حد تعبير أشقائنا المصريين.