شيبتني غزة وأهوالها.
قلم : عبد العزيز غياتي
من قرأ سورة البروج التي تتحدث عن أصحاب الأخدود الذين يفصّل قصتهم الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث رواه مسلم في صحيحه؛ علم هول الابتلاء الذي حلّ بالمؤمنين الذين آثروا نار الأخدود على أن يرجعوا إلى الكفر، وقبْلهم شُق جسم الراهب وجليس الملك إلى نصفين بمنشار وضع على رأسه بعد أن رفض العودة إلى الإيمان بالملك ربّا من دون الله، ومن قرأ بعضا من السيرة النبوية سمع بقصة الحصار الاقتصادي والاجتماعي الذي فرضه أئمة الكفر في شعاب مكة على بني هاشم وبني المطلب خلال ثلاث سنوات لأنهم اعتبروهم حاضنة قبلية تحمي النبي صلى الله عليه وسلم، وقبل ذلك ما تعرض له المستضعفون من أوائل المؤمنين برسالة الإسلام كبلال بن رباح من تعذيب من قبل أبي جهل وأمية بن خلف بسبب إسلامه، وآل ياسر الذين كان الرسول صلى الله عليه وسلم يخاطبهم حين يمر عليهم وهم يعذبون: (صبراً آل ياسر، فإنَّ موعدَكم الجنة).
ومن كان له بعض اهتمام بأمور المسلمين أو بأمور المستضعفين عموما سمع عن مجزرة حماة في فبراير 1982 أو شاهد بعض الصور عنها؛ حيث هدم النظام السوري المدينة على رؤوس أهلها مخلفا 40 ألف قتيل و17 ألف مفقودا، وسمع عن الجرائم التي ترتكب في حق المسلمين في الهند وميانمار، والتي ارتكب أفظع منها في حق مسلمي البوسنة والهرسك من قبل الصرب حيث اعتبرت مذبحة سربرنيتسا في 1995 أكبر مذبحة بأوروبا بعد الحرب العالمية الثانية والتي اقترفت على مرأى ومسمع من قوات حفظ السلام الأممية، وسمع عن الأقليات التي انقرضت بفعل قوى استعمارية خارجية، وقرأ تاريخ المذابح التي ارتكبت على مرّ التاريخ في حقّ الأمم المستضعفة.
وعلى الرغم من أنّ الله قيّض للحقيقة رجل الإعلام النزيه الذي ينقلها إلى الناس عابرا حاجزا الزمان والمكان، والمؤرخ الذي يوثقها كتابة من أجل الأمم القادمة، والحكواتي الذي يوثقها ضمن الموروث الشفهي وغيرَهم، فإنّ مقام تصور الحدث الغير المشهود وتمثّله -كأنك تراه- غير متاح دائما إلا للقلة القليلة، وعلى الرغم من أنّ العالم لا يتابع ما يحدث في غزة بنفس الاهتمام، بل هناك من الناس من لا يهتم مطلقا ومنهم يتابع من زاوية المعتدي؛ فإنّ تقنيات التواصل اليوم يسّرت للمشاهد مرتبة الشاهد الذي يعيش بجوارحه جرائم تشيب لها الرؤوس ترتكب في غزة منذ أكثر من سنة، لم يتوقف خلالها الاحتلال الصهيونازي عن الإبداع في قتل الحياة وإفناء العمران، وأستغرب كيف لكيان تأسس على اغتصاب أرض فلسطين بعد ممارسة التهجير والتطهير العرقي في حق أهلها، وعاش على احتلال أراضي دول الطوق، كيف تبارَك جرائمه اليوم من قبل المنتظم الدولي وينزّل منزلة "شيفا" إله الهندوس؟
وليس غريبا على كيان أسس بنيانه على هدى من مبدأ "شعب الله المختار" العنصري الذي أحلّ له معاملة "الجويم" خارج الأخلاق والقوانين الدولية، ومظلومية "الهولوكوست" الأسطورية التي فتحت له خزائن دافعي الضرائب ومستودعات إدارة دفاع الولايات المتحدة الأمريكية ودول غربية أخرى بدون حساب، ليس غريبا عليه أن يستمر في ممارسة سياسة التهجير والتطهير العرقي ضد الشعب الفلسطيني بالاستيلاء على البيوت بأحكام قضائية عنصرية جائرة، أو على أيدي قطعان المستوطنين تحت حماية الشرطة والجيش الصهيوني، وكذلك يفعل تجاه الأراضي الزراعية في إطار مخطط معلن ومستمر للاستيلاء على غزة والضفة الغربية، مخطط يبلغ ساعة الذروة في كلّ مناسبة تندلع فيها الحرب، وقد بلغ ذروة الذروات خلال طوفان الأقصى حيث أصبح لجريمة الحرب معنى آخر، وأصبح للتهجير والتطهير العرقي أبعاد أخرى.
فالعالم يرى قصف البنايات السكنية، وخزانات الماء ومستودعات المواد الغذائية، وسيارات الإسعاف والشاحنات المحملة بالغذاء والدواء التي يستثنيها الحصار الظالم المفروض على غزة، وتجريف الأراضي الزراعية وإحراق الأسواق العصرية والشعبية وتجمعات البيع الصغيرة، وطوابير السكان أمام نقط توزيع الماء أو الطحين أو وجبات الغذاء، ويرى كذلك تجريف الطرقات وهدم المرافق العمومية وتخريب تجهيزاتها، خاصة المستشفيات ومقرات الدفاع المدني وآبار المياه ومحطات توليد الكهرباء وآليات تصريف النفايات وضخ مياه الشرب والمياه العادمة، وقصف المدارس والجامعات والمساجد والكنائس ومقرات الأمم المتحدة، وكلّ ما يمكن أن يكون ملجأ للنازحين، وقصف ما تبقى من السكان بالتربص بهم وهم في الطريق بعد أمرهم بالنزوح، وتكرار القصف بعد أمر جديد بالنزوح في الاتجاه المعاكس أو عند تجمهرهم مثلا لالتقاط مساعدات غذائية حملتها الشاحنات أو ألقت بها الطائرات. والعالم شاهد عيان على اعتقال المواطنين من مختلف الأعمار؛ المرضى والجرحى والأصحاء، واعتقال الممرضين والتقنيين والأطباء من الشارع ومن داخل المستشفيات، وتعريضهم للحرّ والبرد والإذلال والاحتقار وهم شبه عراة قبل نقلهم إلى معتقلات أكثر بشاعة حيث يتوفى ويختفي كثير منهم، ويعود من أطلق سراحهم ليصفوا باللسان والحال ما تعرضوا له جميعا من أبشع أصناف التعذيب والانتهاك الغير مسبوق لأبسط حقوق الانسان، وشاهد على تجريف المقابر والدوس على جثث الموتى وعلى الجرحى بالجرافات، واستعمال القنابل الحارقة لإحراق النازحين وهم نيام داخل خيامهم البلاستيكية.
لن أبالغ حين القول إنّ سلاح الصبر الذي تحلى به الشعب الفلسطيني أشد فتكا بالعدو من سلاح المقاومة الذي يصطاد جنود الاحتلال أفرادا أو مجموعات مع آلياتهم، لذلك عمد الكيان الصهيونازي إلى اعتماد القتل المباشر للإنسان الغزي والقتل البطيء بإفناء كلّ مقومات الحياة، والتعذيب والإذلال والتحقير لدفع من أفلت من الموت إلى النزوح إلى الخارج وعدم التفكير مطلقا في العودة، إضافة إلى تعمّد استعمال أسلحة غير ذكية وغير مناسبة للأهداف، لإحداث دمار شامل في كلّ شبر في القطاع متوهّما أنّه يمكن أن يخرق سنّة المقاومة التي سنّ الله في خلقه، ويعود بغزة إلى ما قبل "الكنعانيين" ويعيد كتابة تاريخ جديد بالحديدوالنار