"الروض العاطر" للنفزاوي.. بين قائمة الغزال و رأس الاسد
في كراسه "الخطاب الجنساني"(*) يرى الباحث التونسي عبد الرزّاق القلسي، أنّ ما أدى إلى شهرة كتاب "الروض العاطر" للشيخ محمد النفزاوي هو "تخليه" عما أسماه بـ"الحياء الشرقي"... بحسب ما يقدمه الكراس: "يتحرك النفزاوي وفق قطبين كلاهما في الجنس وبالجنس، قطب العمليات الجنسيَّة المتنوعة التي تشير إلى أننا إزاء وليمة جنسيَّة في ذروة شبقيَّة، فاعلوها من الرجال والنساء، وقطب التوصيف الجنساني الدقيق الذي يرتقي بالكتابة الجنسيَّة ذاتها إلى مقام اللذة". والكتاب ألفه النفزاوي بناءً على طلب من السلطان عبد العزيز الحفصي سلطان تونس، وذلك لإثراء الكتاب الصغير، "تنوير الوقاع في أسرار الجماع"، للمؤلف نفسه. وكان هذا الكتاب يخاطب السلطان، ليس لضعفه بل لأن السلطان هو من طلب كتابته، وذلك واضح من بداية كل باب، في "اعلم يرحمك الله". يقول النفزاوي شارحاً ردّ فعل الباي على الكتاب: "بعد مرور ثلاثة أيام أتاني مولانا الباي وبيده الكتاب، وعندما رآني متوتّراً وخجلاً بعض الشيء قال: لا يجب أن تشعر بأيّ خجل أو حرج فكلّ ما ذكرته في هذا الكتاب ذو قيمة، وليس في ما كتبته ما يصدم أحداً. لكن فاتك شيء ما". عندما استفسرتُ عن مراده قال: "لقد كنت أفضّل أن تضيف إلى الكتاب ملحقاً تخصّصه للحديث عن كل مرض من الأمراض والاختلالات التي ذكرتها". بدا واضحاً أن الكتاب لا يحيد عما هو مرسوم له، ينخرط في المصنفات الإيروسيَّة الإسلامية المتاحة أو المشروعة، فيما يطلق عليه "علم الباه"، وهو علم ينظر في مسائل النكاح والجماع بطريقة فقهيَّة لا ترى تعارضا ً بينها وبين القرآن ومن السيرة النبويَّة. ويفتتح "الروض العاطر" بدعاء "الحمد لله الذي جعل اللذة القصوى للرجل في الاعضاء الطبيعية للمرأة، وقدر ان تمنح الاعضاء الطبيعية للرجل المتعة القصوى للمرأة".
يقول القلسي أنه يُنظر إلى كتاب "الروض العاطر" بطريقتين: الأولى ترى فيه أدباً هامشيَّاً كُتب لأقليَّة هامشيَّة، والثانية ترى فيه خطاباً جنسيَّاً بالنظر إلى المواد الجنسيَّة الكامنة فيه، ونحن نرجّح النظرة الثانية؛ ومنزلة هذا الكتاب ترتقي به الى فعل التأسيس لخطاب جنساني، وذلك لأنه لم يجعل الجنس وممارسته تابعين لاغراض وقضايا اخرى، مثل الخمرة، ومنزلة المرأة ومسائل النكاح، بل جعل الوظيفة الشعرية للخطاب الجنساني مندسّة في هذا الكتاب عالقة به وليس في شيء آخر غيره، وهذا ما ينفرد به كتاب "الروض العاطر" عن غيره من الكتب ذات الصلة بالشأن الجنسي.. يتكلم بوضوح عن الجنس في ظل الابيستمية العربية الاسلامية، مثلما تكلم غيره ضمن الابيستمية الهندية (الكاماسوترا)، أو ضمن الابيستمية الحداثة والليبرالية (الماركيز دو ساد) وهذا كله يضفي على الكتاب ملامح مخصوصة وقيمة اعتبارية ومعرفية مهمة داخل الثقافة العربية الاسلامية.
والفعل الجنسي الذي يتحدث عنه النفزاوي هو فعل من اجل المتعة والنشوة وليس من اجل الانجاب، والعبور بالجسد من الجنس الى الشبق ومن عقلية التكاثر الى عقلية النشوة هو ما يدفع النفزاوي الى توصيف العلاقات الجنسية، واللقاء الحميم بين الرجل والمرأة، فالجماع هو في حد ذاته حركة يسميها النفزازي "الدك" او "الهز"، وفي كل الاحوال لا يبدو الجماع سكوناً او صمتاً وانما خوار ولهاث يمكن أن يرتقي مجازاً او استعارة الى ما يسميه "النطاح" و"القتال"، وهو اذ يقف على هذه الحركات فإنه يستمد توصيفات لها من الحيوان، فيصف فرج المرأة بأنه "يشبه اثر قائمة الغزال في رمال الصحراء" مثلما يصف ذكر بالرجل بـ"رأس الاسد"، والوصفان كلاهما تمجيديان ومستمدان من الثقافة العربية الكلاسيكية التي ترى في الغزال وفي الاسد رمزاً للجمال القوة في عالم الانوثة والرجل. ويورد النفزاوي قائمة في اسماء فروج النساء لا تزال بعض مفراداته إلى الآن متداولة في بعض المجتمعات العربية. وهناك مفردات سقطت من الاستعمال ولم تعد الذاكرة تحفظها لثقلها الصوتي او لبدويتها العميقة مثل "ابو خشيم" و"الفشفاش" و"القنفود".
وفي الروض العاطر ظاهرة لغوية معجمية لم تكن موجودة لدى العرب الذين وصفوا وسمّوا فرج المرأة، مثل الشاعر أبي نواس وغيره من الشعراء العرب الخلعاء، وهي ظاهرة العبارات الجنسية السوقية او المتداولة من غير حياء، ما يدل على ان هناك منسوباً من "التحرر" في ممارسة الخطاب الجنسي في ذلك العصر، وتتجاوز هذه الفردات السوقية مع مفردات وعبارات فصحى مستمدة من الشعر الجاهلي وقصائد لمجهولين... وبقدر ما تتقدم القراءة لهذا الكتاب نلاحظ ان المرويات الجنسية، أنثراً أم شعراً، تنفلتُ من جهاز الرقابة، سواء من الفقه أم من الشريعة ذاتها، أو من السلطان بل ان السلطان هو راعي كتاب الروض العاطر... لا يقيد النفزاوي خطابة الجنسي وانما يخلق بلاغته الخاصة التي يمكن ان نرى فيها جانبا من بلاغة سوقية او شعبية او عامية متمردة على التحنيط الفقهي الذي بدأ يتشكل في قائمة لانهائية من الفتاوي يظنّها البعض جزءاً من الشريعة ذاتها...
والنفزاوي أعلى درجة من ابن حزم الاندلسي الذي وضع كتاب "طوق الحمامة "من اجل تقنين الحب ووضع حدوده ومداه، فكان كتابه تدشيناً لعصر أداء الحب في الادب العربي، الأدب العفيف المتصل بالفضيلة، والذي يقصي أي متعة جنسية كما لو كانت غريبة عن المتخيل العربي. واذا كان ابن حزم قد عكف على تبيان علامات الحب وانواعه: الحب من أول نظرة، فالنفزاوي لا يهتم بهذه المسائل المتصلة بالعشق قدر اهتمامه بالايلاج وبنشوة الرجل وانبثاق اللذة، والجسد وفعل الشم...
يعتبر القلسي ان فعل النفزاوي هو فعل تأسيس داخل الثقافة العربية الاسلامية لأنه ابتكر الخطاب الجنساني بكل أبعاده ومكوناته: المعجم والسرديات فضلاً عن فيض من الاستعارات التي يفهم سيميائيا منها أنها "تمدّد من مساحة التعبير عن اللذة في اللسان العربي، بقصدية واضحة لا تتخفى وراء موضوع اخر وقضية ثانية". هذا التأسيس نشأ مع كتاب اخر ظهر في تونس على يد الشيح احمد التيفاشي بعنوان "نزهة الالباب"، وقد قال عنه محققه الشاعر والمترجم العراقي جمال جمعة "يجهد هذه الكتاب في تناول موضوع نادر في تاريخ الادب الايرويتيكي العربي، اذ يقدم مسحاً شاملاً للظواهر الجنسية المتخفية منها والظاهرة في المجمع الاسلامي". والكتابان(الروض العاطر ونزهة الألباب) كلاهما يدشنان الخطاب الجنساني في الثقافة العربية. فالكلام عن الجنس قبل النفزاوي والتيفاشي كان كلاماً وعبارات ومتعلقات بموضوعات اخرى واستطرادات، أما مع النفزاوي خاصة فهو الخطاب الذي من أوكد شروطه "يحيل الممارسات اللغوية والشفوية الى انخراط اجتماعي".
على ان التيفاشي سبق النفزاوي على الاقل بقرنين من الزمان، ما يدل على ان النفزاوي قد استوعب الخطاب الجنسي الوارد في "نزهة الالباب" وضمن بعض مواده، لكن ما يتميز به عن سلفه هو في اخراجه للخطاب الجنسي الى مستوى التقبل العام، فلم يتطرق الى المواضيع غير "المشرّعة"، والمرأة في كتاب "الروض العاطر" لا تمت بصلة للغرائبية الآسيوية وليست حورية من الحور العين، والرجل ليس كائنا خارقا بجسد عظيم خرافي، فالجنسانيَّة لدى الشيخ النفزاوي طاقة طبيعيَّة وفطريَّة لا تتخذ صوراً أخرويَّة، ولا تتحرك ضمن قوى ليبيدويَّة متخيَّلة، والأفعال تندرج ضمن دائرة المقدور عليه الممارس بشوق طبيعي إنساني.