أحلم بيوم ..
قلم : محمد كرم
أحلم بيوم يعي فيه الأمريكان و من يدور في فلكهم من حلفائهم الغربيين بأن مصلحتهم تكمن في التقرب الإيجابي من العرب و المسلمين و في مصادقتهم و إقامة شراكات متوازنة و نافعة معهم و ليس في استغلال ضعفهم بإذلالهم و تقتيلهم و ابتزازهم و التهكم من خصوصياتهم و دينهم و نبيهم و تراثهم مع الاستمرار في تبني كيان لقيط ارتبط إسمه في معظم الأذهان بالاحتلال و الظلم و العدوان أساسا و لم يتمكن منذ تأسيسه قبل سبعين سنة و نيف من إنتاج و لو مفكر أو فيلسوف أو روائي أو موسيقار أو رياضي واحد بإشعاع عالمي. البيئة المحلية لا تسمح بهكذا تفوق بما أن كل ما بنته إسرائيل في ذلك الصقع من الشرق الأوسط لم يقم على أسس العدالة و المحبة و الرغبة في التعايش بل قام على تزوير التاريخ و الحقائق و على النهب و العنصرية و الإبادة و التشريد و كل أصناف الشر. التميز الوحيد الذي يشهد به العالم بأسره هو قدرة هذا الكيان الرهيبة على تعبئة جيشه بهدف سفك الدماء و دك الحجر و الشجر في حين أن عطاء اليهود الحقيقي عبر التاريخ، و الذي لا يمكن تجاهل دوره في ازدهار الحضارة الإنسانية، كان من توقيع يهود الشتات.
أحلم بيوم يعي فيه يهود إسرائيل بأن استمرار غطرستهم و توالي جرائمهم رهينان فقط باستمرار دعم الغرب لهم. لقد تم تسليحهم بأقذر الأسلحة و منحوا الضوء الأخضر للتسديد و القصف في كل الاتجاهات دون تمييز و أعطيت لهم كل الضمانات حتى يظلوا دون عقاب فكان من الطبيعي أن يخلقوا الرعب و يتحولوا إلى أشرار في أعين كل المتضررين بالمنطقة و كل المتعاطفين مع القضية الفلسطينية حتى داخل تلك الدول التي تعتبر أمن الدولة العبرية من أمنها ( من المؤكد أن ذكرى انتفاضة الطلبة الأخيرة بالجامعات الأمريكية و التي عبروا من خلالها عن دعمهم لشعب فلسطين الصغير و المقهور مازالت حاضرة بالأذهان). إسرائيل تكاد تكون دويلة نكرة حتى في صفوف الدول المعترفة بوجودها، و لولا سلاح الغرب و أمواله و انحيازه الثابت و اللا مشروط لهذا الورم السرطاني لما استطاع الصهاينة أن يصمدوا أمام جيرانهم المتعددين و الكارهين لهم و لوجودهم و لو ليوم واحد و لما استمتعوا بنعمة النوم و لو لليلة واحدة. أما اليهود العقلاء الحكماء الذين لم ينساقوا وراء الأطروحة الصهيونية و لم يبرحوا أوطانهم الأصلية فيعلمون جيدا بأن "أرض الميعاد" مجرد وهم و بأن هذا الكيان المصطنع و النشاز مصيره الزوال إن عاجلا أو آجلا لأن الأحقاد لا تموت بسهولة. (من حسنات "طوفان الأقصى" و ما أعقب هذه العملية من دمار و مجازر بقطاع غزة أن قرابة 24% من الإسرائيليين يفكرون جديا في الهجرة بعدما اتضح لهم بالملموس بأن السلام المنشود بعيد المنال بل و يكاد يكون مستحيلا و ذلك استنادا إلى دراسة حديثة أنجزها مركز روبين الأكاديمي الإسرائيلي . حتى حل الدولتين لا يعتقد اليوم أكثر الإسرائليين اعتدالا و جنوحا للسلم بأنه سيكون قابلا للصمود على المدى البعيد.)
أحلم بيوم يدرك فيه الجميع بأن الله لم يخلقنا شعوبا و قبائل فقط لنتعارف بل و لنتكامل أيضا علميا و اقتصاديا. ما أحوج المغاربة اليوم إلى القمح الروسي و ما أحوج الروس إلى الأسماك و الخضروات و الفواكه المغربية. ما أحوج أوروبا الغربية إلى البترول و الغاز العربيين و ما أحوج العرب إلى التكنولوجيا الأوروبية. ما أحوج أمريكا الجنوبية إلى الاستثمارات الأمريكية الشمالية و ما أحوج الولايات المتحدة الأمريكية و كندا إلى السواعد اللاتينية... هكذا يكون التكامل الاقتصادي الطبيعي، و كل إجراء يحول دون تحقيق هذا الهدف الحيوي ـ و خاصة على مستوى الحدود المشتركة ـ يتسبب حتما في الحرمان و الخصاص و في خسائر لا تحصى. هناك مناطق بأكملها تكاد تكون مصنفة ضمن المناطق المنكوبة و ذلك بسبب الأجواء العدائية الذي خلقها السياسيون.
و قد يتخذ مفهوم التكامل أشكالا أخرى.فالسويسريون و الاسكندنافيون على سبيل المثال لا يشك أحد في أنهم في وضع يسمح لهم بإعطائنا دروسا في المثابرة و الكد و في الانضباط المهني و الإنتاج الخالي من الغش و التدليس و ترتيب الأولويات و التمييز بين ما هو شخصي و ما هو غير ذلك و كذلك في كيفية إتقان البناء و حسن التخطيط و احترام المواعيد و تشجيع الموهوبين و الرفع من معنويات الفاشلين ... و نحن في وضع يسمح لنا بتعليمهم حدود العقل و أفضل الطرق للحفاظ على الأواصر العائلية التي باندثارها يسقط واحد من أهم شروط السعادة على الأرض. سنشرح لهم أيضا فوائد الستر و الحشمة و المقصود بالبركة و ماء الوجه و العرض و الشرف و المودة و الرحمة بين الأزواج، بل و سنبين لهم أيضا كيف أن الدين ـ عند أهل السنة كما عند الشيعة و البهائيين و الهندوس و السيخ و المورمون و اليهود و النصارى الأرثوذكس و غيرهم ـ هو فن التعامل مع الكبت بكل أصنافه و بدونه من الطبيعي أن يتجرد الإنسان من إنسانيته... و سنذكرهم كذلك ـ قبل فوات الأوان ـ بأن الرجل رجل و المرأة امرأة و بأن اتهام الرجل بكونه زير نساء لا يضر برجولته و بأن اتهام المرأة بكونها سارقة أزواج لا ينقص من أنوثتها مادام أن قانون الطبيعة في باب التمييز بين الجنسين موضوع احترام و تنفيذ.
أحلم بيوم يكف فيه كل معسكر عن الازدراء بالمعسكر الآخر مع اعتبار نفسه الأقوى و الأذكى و الأعلم و الأجدر بقيادة العالم و فرض رؤيته. فالشر كل الشر يبدأ عندما نعتبر أنفسنا أعلى قيمة من الآخرين، و خرجات دونالد ترامب الأخيرة تسير في هذا الاتجاه ، و لذلك من غير المستبعد أن يستعيد قناة بنما و يسرق غريلاند من الدانمارك و يجعل من كندا الولاية الأمريكية رقم 51 و كل هذا في المستقبل المنظور مادام أن جذوة جنون العظمة لديه في أوج الاتقاد حاليا. و طبعا من كانت هذه هي مراميه على المديين القريب و المتوسط لن يزيد أوضاع العالم إلا تأزما.
أحلم بيوم يكون فيه لصناع القرار الأمريكيين ما يكفي من تبريرات منطقية لممارسة حق الردع و للتحرك لحماية حدود بلادهم بقصف طائراتهم و بوارجهم لكيانات سياسية أخرى تفصلها عنهم آلاف الكيلومترات في وقت يعلم فيه حتى الأميون بأن الولايات المتحدة الأمريكية تتقاسم حدودا برية حقيقية مع دولتي كندا و المكسيك لا غير. فهل الأمر هنا يتعلق بهاجس أمني مشروع أم هو فقط نوع من البارانويا ؟
أحلم بيوم تستغل فيه الأموال المرصودة لتسليح الجيوش في مشاريع التنمية البشرية الحقيقية، و لكم أن تتصوروا مثلا ما يمكن لأي دولة أن تحققه من إنجازات بأموال طائرات إف 16 الأمريكية الحديثة (حوالي 20 مليون دولار للطائرة الواحدة، و هو مبلغ يؤدى في الغالب على سنوات و لا تتم الصفقة إلا برضا الكونغرس !!!!!).
أحلم بيوم يكف فيه العرب و المسلمون عن الدعاء للغرب و اليهود بالفناء و لأولادهم فقط بالتفوق و النجاح و دوام الصحة و العافية. إذا كان هذا الدعاء صادقا حقا فكيف نفسر استمرار معانقة الكثير من شبابنا لحلم الاستقرار بأرض "الكفار" و استكمال دراساتهم بجامعاتهم ... بل و التجنس بجنسياتهم و الارتباط بشقراواتهم ؟ هل هذا هو المصير الذي يستحقه أسياد اليوم بعد كل ما أفرزته عقولهم و مختبراتهم العلمية على امتداد عشرات السنوات ؟ و هل هناك ما يثبت بأن كوكبنا سيصبح أكثر غنى و أكثر جمالا و أكثر أمانا في حال حصل هذا الفناء ؟ و هل نحن مؤهلون دون غيرنا لتسيد العالم بوضعه الجديد بالنظر إلى قيمة رصيدنا العلمي و مستوى أخلاقنا الحالي و حجم إنتاجنا و نوعيته ؟ كيف يمكن أن ننتظر من شعوبنا التقاط مشعل التفوق و نحن ضحية فساد متعدد الأبعاد و أنانية مفرطة و جشع مرضي و جهل مزمن و تخلف بنيوي و لا رغبة لنا حتي في الانتظام في طوابير سليمة للاستفادة من مختلف الخدمات ؟ إن اختلال موازين القوى على كل الأصعدة هو سبب مأساتنا المعاصرة و من السذاجة التعويل على الكبار لعلاجه. فشيئا من النقد الذاتي من فضلكم يا أيها الأشقاء !
نعم، أحلم بكل هذا مثل الطفل الصغير الذي يرى العالم بنظارات عواطفه و براءته و لا يفقه شيئا لا في الأمور الجيوسياسية و لا في الرهانات الاقتصادية و العسكرية الكبرى و لا علم له لا بالممرات الجغرافية الإستراتيجية و لا بالمخططات الجهنمية التي تحاك في الكواليس و لا بدواخل النفس البشرية و خاصة نفوس من يعود إليهم إعلان الحرب و السلم و لهم صلاحية الضغط على الزر النووي أو الامتناع عن ذلك ... و لكنه يعلم ـ على الرغم من صغر سنه ـ بأن من يزرع الشوك لا يجني الأفوكادو.