دراسات بالجملة وصفقات على المقاس: حين تتحول الجماعات الترابية إلى مختبرات للهدر والعبث
أزيلال 24
لا تكاد تمر سنة دون أن تُكشف اختلالات في تدبير الصفقات العمومية، لكن ما أزاحت عنه تقارير المجالس الجهوية للحسابات مؤخرًا بشأن صفقات الدراسات التقنية داخل جماعات ترابية بجهات بني ملال-خنيفرة،و الدار البيضاء-سطات، ومراكش-آسفي، يكشف عن أزمة أعمق من مجرد أخطاء إدارية أو تجاوزات معزولة. نحن أمام نموذج ممنهج للهدر المالي وسوء الحكامة وتكريس الريع في أوضح صوره.
كيف يمكن تفسير غياب معايير موضوعية لتقييم وتتبع الدراسات، ودفاتر تحملات لا تتضمن عتبات قبول العروض، ولا تحدد آجالًا معقولة لإنجاز المهام؟ ثم ما معنى أن تعاد الدراسة نفسها بين جهات متعددة، دون تنسيق أو ضمانات؟ إنها ليست مجرد سقطات تقنية، بل علامات على غياب الإرادة الصريحة في ترشيد الموارد وتكريس مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة.
ما يُثير القلق أكثر هو هيمنة مكاتب دراسات بعينها، لا تتوفر أحيانًا على الكفاءة المطلوبة، لكنها تحصد صفقات بالجملة تحت غطاء تعويض النقص في الموارد البشرية. ألا يكشف هذا عن شبكة مصالح مغلقة بين رؤساء جماعات ومكاتب دراسات لها تاريخ من العلاقات المشبوهة معهم؟ نحن إزاء احتكار مقنّع وخرق صارخ لمبدأ التنافسية، في غياب آليات مراقبة فعالة ومحاسبة صارمة.
تقارير المحاكم المالية كشفت أيضًا عن تقديرات مالية مشبوهة، وصفقات وهمية، وتكرار غريب لنفس الأسماء والمكاتب في أكثر من جماعة. الأسوأ أن بعض هذه الصفقات انتهت بنزاعات قضائية أوقفت مشاريع حيوية كان المواطن ينتظرها لسنوات. كيف يمكن تفسير كل هذا إلا في إطار تواطؤ منظم أو على الأقل تهاون قاتل في حماية المال العام؟
رئيس الحكومة سبق أن وجّه منشورًا يحث على ترشيد هذه النفقات والاعتماد على الكفاءات الداخلية، لكن يبدو أن المنشورات وحدها لا تكفي. ما نحتاجه اليوم هو مراجعة شاملة لمنظومة الدراسات العمومية، من مرحلة الطلب إلى التقييم، وإعمال رقابة قبلية وبعدية صارمة، وربط الصفقات بعقود نجاعة واضحة المعايير والمخرجات.
إن استمرار هذا الوضع لا يهدد فقط ميزانيات الجماعات، بل يقوض ثقة المواطن في مؤسسات الدولة، ويحول مشاريع التنمية إلى أدوات لتوزيع الريع والتغطية على العجز والتقصير. نحن بحاجة إلى قرار سياسي شجاع يضع حدًا لهذا العبث، ويُعيد للدراسة التقنية معناها وجدواها، بعيدًا عن صفقات على المقاس وعلاقات مشبوهة عمرها سنوات.