سالم الدليمي
تنالتُ في الجزء الأول من تلك الدراسة تعرض الكاتب توفيق الحكيم لشخص الرسول الكريم ووصفه بالحمار ، و سخريتهُ المبطنه في الكثير من المفاهيم الدينية الإسلامية ، و أنا هنا (كدارس) أتعجّب من مرور هكذا أمور على الرقابة المصرية فهذا الكتاب طبع مرات عديدة منذ اول صدور له في أربعينات القرن الماضي حتى اليوم .
ولنتابع فصول كتاب الحكيم ، و لنقف عند نقده لتمسّك المجتمع العربي بالتقاليد و الأعراف و الموروثات فهو يقول أن شعوبنا تظن انهم بضياع تلك التقاليد و الأعراف (و إن كانت شكلية) فستضيّع حريتها و قوميتها و عقيدتها ، فيصف الشعوب القوية الحرّه بأنها أوسع الشعوب صدراً و عقلاً و يأخذ الشعب الياباني فيقول : " وعلى الرغم من التقاليد اليابانية القديمة ، والوطنية اليابانية العريقة ؛ لم نسمع يابانياً ذكر كلمة (( القومية )) أو الوطنية، وهو يرتدي الزي الأوربي ، لأنه لم يخطر قط بباله وهو يلبس (القبعة) أنه سيخلع (قوميته)... أما الشعوب الضعيفة فتتوهم دائماً أن حريتها أو قوميتها أو عقيدتنا ستُخلَع منها وتذهب عنها بلفظ أو بكلمة أو بِرداء ؛ فهي تنفعل وترتعد وترتاع لمجرد المظاهر والالفاظ والكلمات "
و يطرح الكاتب حلاً لذلك بتوفير حرية الرأي و العمل بقوله : " حرية الكلام حتى يألَف الناس الألفاظ ولا يرتاعوا من الكلمات ... وحرية الفكر والعمل والتصرفات حتى يَعتاد كل فرد إحترام رأي الآخر وعمله وتصرّفه دون أن يكون مضطراً إلى إتِّباعه " إنها حقاً دعوه لمجتمع علماني في فتره مُبكّره ، ليت المجتمعات العربية أخذت بها حينها ، و يبدو الكاتب ساخطاً على مجتمعاتنا في عدم فهمها لدعواته و تبنيها لأفكاره و يتجلّى ذلك بوضوح في المقدمه التي كتبها الحكيم عن وشائج صلته بالحَمير في أول الكتاب حيث يروي لنا الحكيم كيف أوكَلَ في كتاباتهِ المسرحية أدواراً للحمار قائلاً : " فلم يفُتْني أن أجعل من الحمار شخصية فى روايةٍ لي ؛ فظهر على المسرح ولم أره للأسف ، فقد كنتُ غادرتُ مصرَ وذهبتُ إلى أوربا فجاءتني الأخبار بأن الحمار أدّى واجبَهُ على أكملِ وَجه ، وقامَ بدورِهِ فى الرواية على نحوٍ يستحق الإعجاب ... ولكنه نظر بعد ذلك إلى جمهور المشاهدين نظرة عميقة ؛ ثم فعل فعلةً غير لائقة لوَّثت خشبة المسرح ... وخرج بين سُخط الممثلين وهَرَج النُظّار والمتفرجين ...
وقد بلغني أنه ضُرِبَ عندئذ وطُرِد وأُهين ، ولو كنتُ أنا حاضراً لدافعتُ عن ذلك المسكين . وأغلب ظنّي أنه أدرك بغريزته أن الجمهور لم يفهم الرواية ... فناب عني فى إظهار إحتقاره له بالطريقة التي رآها مواتية ." فهنا يؤكد لنا عدم فهم الجمهور له و أن فعلة الحمار التي أبداها لهم تنوب عن الحكيم و يؤيدها في إحتقاره لجمهور لم يفهمه.
أما رأي الكاتب بالأحزاب فيتجلّى في سطوره الأخيره من هذا الفصل في صفحه 56 و التي يخلص اليها بعد حواره مع حماره في أنَّ على الأحزاب تبني مباديء الحريّة الإجتماعيه و بذلك تتم موافقته على إنشائها لكنه يختتمها بعبارة مُهينة للمُنتمين للأحزاب ، حيث يُعلِن موافقته للحمار قائلاً : " لا مانع عندي الآن من تأليف الحزب ... إجمع الحمير !.. " فمن هم الحمير يا تُرى !؟ لأننا نجد الكاتب في آخر فصل (حماري و السياسة) ص 65 ينصح حمارَهُ بالإبتعاد عن مضمارِها قائلاً : " إنك لن تؤثر فيهم بمبادئك .. ولكنهم هم الذين سيؤثرون فيك بمبادئهم ... ولن يمضي وقت طويل حتى ترى أنك أنت لم تعد حماراً. " أي لم تعُد طيب السريرة كسجيتك كحمار .
و في فصول أخرى نجد الكاتب يُظهِر عامداً مواقف معادية للمرأة ففي (حماري و الطالبة) ص 72 لا نرى للحمار دوراً سوى في العنوان حيث يتّخذ أحد زوايا المكتب مكاناً ينزوي فيه مستمعاً لحوار توفيق الحكيم مع الطالبة ، و لا أظن أن الهدف من إظهار عداء الكاتب للمرأة إلّا لشيئين إثنين : أولهما دفعها لقراءة مقالاته و كتبه وهي هنا غاية ساميه من الكاتب لجر المرأة للتعلّم والقراءة .. و ثانيهما أن يعرض على لسانهِ المواقف المعادية لحرية المرأة ودخولها مجالات الحياة جنباً الى جنب مع الرجل ، و أظنّهُ وُفِّقَ في هذا فقد أعطاها دوراً أعجزها عن الحجّه فولّت هاربة ، و حتى دور الهروب هذا قد يدفع بعضهن فيقبلنَ التحدّي لإثبات العكس ، لكن رأي الكاتب الشخصي و ليس المهني ككاتب نراهُ يقف ضد ولوج المرأة بعض أبواب العمل كالقضاء فهو يفترض أن عاطفتها ستكون هي المسيطرة و بالتالي ستأتي أحكامها منقوصة العداله فهو يفترض تأثر القاضية بوسامة و شياكة قاضي الدفاع ، متناسياً أو (متجاهلاً عن عمد) نفس التأثير فيما لو قلبنا الأدوار و كان القاضي رجلاً متصابياً و كان محامي المتهم شابة ذات جمال أخّاذ .. و أغلبنا نعرف أن المرأة التونسيه خلال و بعد عهد الراحل بورگيبه تبوأت مناصب قضائيه كثيره و مثَّلن الإدعاء العام أيضاً ، أما مهنة المُحاماة فنجد المرأة قد أمتهنتها في غالبية الدول العربية الأسلامية .
و يستمر الكاتب بين مزاحهِ و جديّتهِ في القصد فنراه في فصل (حماري و حزب النساء) ص 85 يتقبّل دخول النساء في البرلمان ليُذكّر المرأة بطريقة ساخرة بأن الدين الإسلامي حسبها بنصف عقل فجعل لها نصف صوت الرجل و حصّته فيقول : " أقترح الأخذ بمبدأ أن ( للذكر مثل حظ الأنثيين ) ، فيكون لكل امرأة صوت واحد ... " ، و يستطرد في نفس المجال قائلاً : " الّا إذا إعترض حزبهن الموقر بأن هذا الرأي أيضاً غير عملي (وهنا نراهُ مُحرّضاً ضد الآية 11 من سورة النساء و الآية 282 من سورة البقرة) .. بحجة أن إشتراط صوت لكل أمرأتين يتطلب وجود أمرأتين في البرلمان يمكن أن تتفقا على رأي واحد ، وهذا بعيد الاحتمال . " نلاحظ هنا آخر العباره (وهذا بعيد الاحتمال) فالكاتب يُصِر على أن عقول النساء لا يمكن ان تتفق فيما بينها على شيء ، مُتناسياً أن الرجال السياسيين كذلك لا تجمع بينهم سوى المصالح سواء كانت شخصيةً أم جمعية ..
حتى موافقته تلك على مشاركتها للرجل في العمل و تمثيلها في البرلمان يُعللها لا لإمكانية المرأة على القيام بذلك بل لوصفها حسب قوله "هي كالقمر (كائن سلبي) ،وسطح مُعتِم في ذاته ، لا تسطَع إلّا بما ينعكس على قلبها ورأسها من تفكير الرجل وإحساسه ... فدنوها منه في مجال العمل المنتح، له من الفائدة ما يعادل فائدة المرأة إلى جانب المصباح .. إنها تُضاعف نورَهُ ، وتُزيدُ إشعاعَهُ... أما أن تنتظِر منها أكثر من ذلك فهو إنتظار للمستحيل " ..
و في فصل حماري و عداوة المرأة ص90 يُحاول كاتبنا أن يجد لهُ أنصاراً من أُدباء عصره يقفون بالضد من المرأة ، فوقع إختيارهُ على العقّاد حيث أخذ الحكيم دوره في الرد على تساؤلات حمارِهِ فها هو كاتبنا يقول عن لسان حال العقّاد : " فمَنذا يسطيع أن يزعَم أني وقفتُ تجاه المرأة موقفاً ينُمُّ عن زراية أو بَغضاء ؟... أين بدا ذلك منّي ؟... هأنذا أُلقي بقفاز التحدي .. ومع ذلك أُصغي أحياناً إلى همسات تتصاعد من قرارة نفسي أرجو أن لا يكون لها صدى يبلغ آذان النساء ، همسات تُنبئني بأن المرأة كانت في نظري ، وتكون شيئاً لا يستحق غير الإمتهان " و يستطرد في مكان آخر في نفس الفصل فيقول نيابة عن العقّاد " إني أُعامل المرأة كما ينبغي أن تُعامَل : لا بالعقلِ الرشيد ، ولا بالمنطق السديد " .. ثم ليؤكّد رأيهُ هذا بقوله عنها " إني أُبصِرُها ... وأراها دائماً كما هيَ... وكما خلقها بارِئُها : فاكهة شهيّه غَضّة يَنخُرُ فيها الدود ... فلننفض عنها دودَها ، ونحن نُخفي إشمئزازنا ، ولنُطْبِق عليها بأنيابِنا ، ونلتهمُها بأفواهِنا ، ثم نطرحُها جلدةً رثّة ، وقشرةً بالية .. هكذا اراد لها القَدَر (وهنا يعني أن الله أراد لها هذهِ المكانة الدونيّة).. فلماذا نريدها نحن على غير ذلك ؟ "
من هذا كلّه أستخلص أن الكاتب إنما كتب كل تلك المواقف ليوصلنا لتلك النتيجه " هكذا اراد لها القدر .. فلماذا نريدها نحن على غير ذلك ؟ " و هي دعوه صريحه للثورة على ما يراه الكاتب من نظرة دونية للمراة وجدناها في تراثنا الديني الإسلامي. و دليلي أنه يختلق المواقف في حديثه عن المرأة لينصح القاريء بقولهِ" إسمع مني النُصحَ أيها الرجل: إذا أحببتَ إمرأةً فإصنَع ما أقولُ لكَ : لن أقول لك اليوم بالطبع ما كان يُقال قديماً : (( إذا دخلت على المرأة فلا تنس أن تُخفي في تلابيبك سوطاً )) " و هو إشارة واضحة للحديث النبوي الذي أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير وإبن عدي والخطيب البغدادي: " عَلِّقُوا السَّوْطَ حَيْثُ يَرَاهُ أَهْلُ الْبَيْتِ ، فَإِنَّهُ أَدَبٌ لَهُمْ "
في فصل (حماري و منظري) يستعرض الكاتب فكرة أن على الأنسان أن يجد أسباب القناعه بشكله الذي وُلِدَ عليه فشحصيته جزء لا يتجزأ من هذا الشكل ، فبعد أن كان ساخطاً على السماء و يتجلّى ذلك بقولِهِ " طالما نَدبتُ سوءَ حظي ونصيبي وبكيتُ وإشتكيتُ لأن السماء خلقتني هكذا شكلاً وموضوعاً " صار يجدُ الأسباب للقناعه بما هو عليه فلو تحققت لهُ ثروة (( روكفلر )) و أخلاق (غاندي) و وسامة (كلارك جيبل ) لما صار كاتباً لامعاً فهو يعتقد أن الوسامة و المال ستُحرِمُهُ موهبة الكتابه فنراهُ يتسائل جازماً بصحة رأيه فيقول : " أين في تاريخ الأدب والفن ذلك المليونير الوارث الذى يحني ظهره ليكتب أو يخلق" و هنا أجدْهُ قد وقعَ في خطأ كبير فأين هو من عميد الأدب العالمي (ليون تولستوي) الأمير الذي يملك مقاطعة ياسنايا بما عليها من بشر و دواب !!!؟ هذا الكاتب الفيلسوف الذي كان غاندي ينهل من سلوكه الأنساني حيت يتجلّى ذلك بوضوح في خطابات غاندي مع هذا الفيلسوف الروائي العظيم ..
لقد كان كاتبنا الحكيم نرجسياً أكثر مما يجب فيتحدّث عن صورتهُ الزيتية التي رسمها له الرسّام المصري (صبري) قد إشترتها الحكومة المصرية لوضعها في متحف الفن الحديث .. و ينتقد ظواهر سلبية في الصحافة المصريه مقارناً بمثيلاتها الغربيه و بالشارع المصري فيقول على لسان حماره " سمعت أن النفاق له قيمة كبرى فى الأسواق العالمية ، وأن أجود أنواعه يوجد فى مصر" ليقارن النفاق في مصر بجودة القطن المصري طويل التيله ، فالنفاق تمتد تيلتهُ الطويله لتصِل إلى الطرفين :الفرد والجتمع .. ففي بلدان اخرى من الجائز أن يعتنق الفرد رأيا مخالفاً للجماعة ؛ فتنهض ضده الجماعة فيقبع فى داره صامتاً ،، أمّا في مصر فيورد مثالاً قائلاً " أخبروني أن أفراداً قاموا ينادون بأفكار حرة فإتهمهم الناس بالإلحاد ؛ فلم يكتفوا بالصمت بل قاموا فى اليوم التالي يحملون المسابح الكهرمان ويرتدون العمائم الخضر" و يستطرد قائلاً في النفاق المجتمعي: " أنه ما من مجتمع في غير مصر يستقبل المجرم الخارج من السجن بالموسيقى والمزمار كما يُستقبَل الحاج القادم من الحجاز" و هذا النقد الموجّه للنفاق الأجتماعي يفوّضهُ من جديد في نقد المجتمع لتبنيهِ ثقافة دينيه بات الكثير من قوانينها بعيدةً عن مجتمعاتنا فهي تنتمي لمجتمعات البداوه القديمه فهو يسخر من المعممين من الشيوخ الذين يُبيحون لأنفسِهِم نظرةً متفحّصه لأنثى تمر من أمامهم معللين ذلك بما ورد في كتب الفقه :(لك في الشرع نظرة واحدة لاحتمال أن يكون القادم أسداً). لكون هذا مدخلاً جديداً يتخذهُ الكاتب لأنتقاد مفهوم الجنّة و النار و الخلود في النعيم فيتسائل : " لقد أكلت من الفاكهة حتى تلفت أحشائي وشربت من الكوثر حتى انتفخَ بطني ، وتسلقتُ الأشجار ، وجريت وراء الأطيار و غازلت الحور ، ولكن ما بعد كل هذا ؟؟
فهو يريد ان تستمر نشوة الإبداع و حلاوة الظَفَر بالنجاحات فيقول على لسان الدكتور طه حسين " .... إني غير راضٍ عن الحياة هنا ... إنها فاترة راكدة لا يظهر فيها نشاط ولا إنتاج فحسب ، بل قد يمضي العام كله ،بل قد تمضي الأعوام كلها دون أن يظهر في الأفق حدث من الأحداث. وهذا الركود مؤلم حقا إذا قارناه بذلك النشاط الغريب الخصب الذي ظهر في حياتنا الأدبية في الدار الفانية ... فقد كان هذا النشاط قيّما حقاً" و بهذا نجد ان الكاتب أراد أن يُمرر كل تلك الرؤى من خلال حماره حيث أنهُ نبّهنا أن كلُّما سيرِد بعد الحديث النبويُّ الذي رواه إبن عمر رضي الله عنهما " إنّي لأمزَح و لا أقولُ إلّا حقّاً " يعنيه الكاتب حرفياً ..
هذا ما إستخلصتُهُ من قرائتي لكتاب توفيق الحكيم (حِماري قالَلي) وتبقى للقاريء رؤىً أخرى أأمل أن يُنوّرني بها إذا كان قد وقف عندما ما ذكرتُهُ في دراستي تلك ..