من مذكرات بحار دمناتي :الماماصان الجزء التاني
محمد البوشيخي
كان السائق يستمع إلى أغنية مالايكا لمريم ماكيبا .نظرت من خلف الزجاج الأمامي , فراقني التناسق الجمالي ,الذي يميز التصاميم الهندسية للبنايات . والنظافة التي تميز شوارع هذه المدينة .هل هي واجهة للمدينة؟ تساءلت ثم أردفت: أنت لست في مغرب الواجهات. أنت في جنوب إفرقيا بلد الذهب والألماس.عمارات لامعة. وأخري في طور البناء. أزقة ودور بألوان يغلب عليها الأزرق والأصفر .حافلات السياح الفاخرة تعبر في مختلف الإتجاهات .سياح ينتشون الأنخاب في أرصفة المقاهي .وآخرون يتسوقون من المتاجر, وصالات العرض الأنيقة .شباب بلباس موحد يستعرضون هواياتهم في العزف. قلت في نفسي إنه حلم مانديلا قد تحقق فعلا .سألني السائق الشاب الذي يرتدي بذلة بيضاء بربطة عنق سوداء
-من أي بلد؟
-من المغرب
-جيد لقد واجه فريقنا فريقكم في دورة كأس إفريقيا للأمم الذي نظمته جنوب إفريقيا قبل ثلاث سنوات
-لقد أقصيتمونا من البطولة.
ابتسم السائق في وجهي فتوجهت إليه بسؤال:
-هل يمكن أن توصلني الي الماماصان؟
- ماذا ؟الماماصان! أنا لا أعرف شيئا بهذا الاسم.
وعند لوحة إشهارية كبيرة في جادة شارع لونغ ستريت . يظهر فيها نيلسون مانديلا مبتسما ورافعا قبضة يده. أنزلني السائق.
وسط هذا الشارع الطويل الذي يعتبر من أهم شوارع كيب تاون .بقيت أنتظر قدوم سيارة أجرة أخري لتقلني إلي الماماصان .لكن دون جدوي .أين اختفت سيارات الأجرة ياتري؟ مرت ساعتان وأنا واقف كالعمود. والعالم يمر أمامي .والكل يستمتع بالجو الربيعي والجمال الهادئ لهذه المدينة التي فيها شيئ من أكادير, والصويرة والمعاريف . لكن بنسق جمالي وعمراني بديع .إلي أن رمقت سيارة أجرة تسير ببطئ لوحت لسائقها فتنفست الصعداء لما توقف :
-إلي أين؟
-إلي الماماصان.
-ماذا؟
-الماماصان.
أخرج السائق من درج سيارته . كتيبا ملونا .وأخذ يؤشر على بعض المعالم السياحية بكيب تاون.
- جبل الطاولة
-لا
-كاب بوينت
-لا
- فلاورز بارك
-لا
-روبين ايسلاند
-لا
-أسباير
-لا
-كريستينبوسش بارك
-لا
حدق في وجهي وقال ممتعظا:
-أنا آسف .وانطلق بسرعة محدثا ضجيجا بفرملة العجلات.
استشطت غضبا .وأحسست وكأنني أكلت مقلبا من شلة البحر. لكن ماذا يقصدون بالماماصان؟هل هي كلمة سر؟ وأسقط في يدي .
وأثناء انتظار سيارة أجرة أخري لمحت كشكا جميلا جانب صالة عرض لتأجير السيارات .توجهت إليه فوجدت منحوثات خشبية. لوجوه إفريقية .ابتعت منها منحوثة صغيرة لنيلسون مانديلا بدولار واحد فقط. و أسر لي العجوز صاحب الكشك. الذي يبدو من سحنته ولباسه. أنه من أصول هندية عندما سألته عن السر وراء غياب سيارات الأجرة . فاقترح علي التوجه إلي محطة الميترو .أو محطة القطار أو أن أركب باصا . أو استئجر سيارة الفقراء ذات الثلاث عجلات المسماة ريكيس .شكرت العجوز فرد علي بالمثل. وقبل أن أغادر كشكه. سألته عن الماماصان فضحك ساخرا من سؤالي قائلا:
-لا أعرف الماماصان ولا الباباصان.
توغلت بين بنايات هذا الشارع الطويل. استطلع المشاهد, واقرأ عناوين اللوحات الإشهارية للمحلات التجارية .فوقع نظري علي محل يحمل اسم ماما أفريكا . قلت لعله سوق ممتاز لكن عندما وصلت عند بابه .اكتشفت مطعما جميلا تؤتث فضاءه مجموعة من الديكورات الإفريقية .جلست بين زبناء من ألوان و أجناس مختلفة. تقدمت نحوي موظفة المطعم بابتسامة عريضة. ووضعت أمامي قائمة بأنواع الوجبات. فطلبت منها إعطائي طبقا شعبيا مشهورا بجنوب افريقيا فأجابتني بكل لباقة قائلة:
-لن تجد أحسن من البوبوتي إنه أحسن طبق في جنوب إفريقيا.
وكان حقا طبقا أفريقيا لاينسي. غنيا بالبهارات والفواكه الجافة. واللحم المفروم, وكريمة الكاسترد. ازدرته بسرعة .وانطلقت نحو الشارع التفت يمينا ويسارا ,لأري هل من سيارة ثلاثية العجلات الريكيس .إلي أن مرت واحدة مزينة وأنيقة لوحت لصاحبها فتوقف مبتسما .وقلت له :
- سيدي هل ممكن أن توصلني الي الماماصان؟
-ماذا؟
-الماماصان
قلتها بحنق ونار الغضب تتاجج داخلي وأنا أدعو الله أن يقودني إلي الماماصان.
-أنت بحار أليس كذلك؟
-نعم انا بحار.
-جيد لقد فهمت وجهتك. ستدفع بالمقابل خمسة وعشرون دولارا 25 دولار فقط.
-موافق
-ولكن قد يستغرق الوقت أكثر من ساعتين لأن هناك زحمة مرور في الشوارع المقابلة .
-موافق
انطلقنا وسط عوالم كيب تاون الجميلة. لكن كل هذا السحر والجمال والألوان والأصوت والموسيقي. لا أحس به. هدفي الأول والأخير هو الوصول إلي الماماصان الذي تواعد عليه الشلة البحرية . بدأ ريكيس يغادر المدينة إلي ضواحيها فأخدت المباني الساحرة تختفي .والشوارع المنظمة تتلاشي. وبدأ في الدخول الي أحياء ومساحات مترامية الأطراف. شباب وشابات بعضلات مفتولة في تجمعات متفرقة. وصبايا وأطفال في جماعات. يلعبون أو يغنون أو يرقصون لا أستطيع أن أميز انتابني شك وخوف فقلت للسائق:
-يبدو أنك أخطات العنوان .
- لا لا أنا اعرف ماتريده قريبا ستكون في ضيافة الماماصان.
- يا سيد هذه مناطق غير آمنة.
-لا تخف توجد الشرطة في كل مكان.أنت في كيب تاون .
توغل في طريق دائرية وسط منازل عشوائية ,ودار دورة أفعوانية .وقبل أن يتوقف اعترض سبيلنا مجموعة من الشباب. أخرج أحدهم مسدسا وصار يلوح به في وجهي مخاطبا مواطنه :
منذ متي وأنت تصاحب البيض ياجون؟
- هذا بحار مغربي وليس كما تظن.
وسط خوفي وارتباكي, وجفاف حلقي, أخرجت علبة سجائر.
وقدمتها للشاب المتهور .تناول العلبة والقداحة وابتسم . فمرت الأمور بسلام .تخطينا هذا الموقف الصعب. و أمام منزل ذو بوابة حديدية تزينها أشجار العليق .توقف سائق ريكيس. ناولته الخمسة والعشرون دولارا . أخرج هاتفه الإيريكسون وتحدث لبضعة ثواني بلغة الزولو. وفجاة انفتح الباب أمرني بالدخول. انتابني شك وخوف وسألته:
لكن أين الماماصان ؟
الماماصان تنتظرك بداخل المنزل .وأعطاني رقمه الهاتفي للإتصال به عند العودة
ولجت إلي الداخل وقلبي يدق مثل قلب عصفور .كان هناك شاب مفتول العضلات أصلع يدخن لفافة حشيش ابتسم في وجهي:
- مرحبا بك ياسيد تفضل ادخل .
في باحة المنزل فتيات في لباس السهرة متحلقات حول مائدة يلعبن الكوتشينا وسط ضحكات وروائح ذخان متنوع.
استقبلتني امراة سوداء بقامة عملاقة ترتدي لباسا فضفاضا .وتضع في أذنيها أقراطا كبيرة بحجم حاملة المفاتيح. بعيون بنيتين مهذبتين. وشفة سفلى عليها شقوق
ونهدين كبيرتين .وتذكرت حكاية من حكايات كنا نسمعها قديما عن تاكروضت tagrotte التي تطوي نهديها لتحطهم علي ظهرها واحدا تلو الآخر .بدوت مثل أحمد والعفريت أمام هذه المرأة الإفريقية .ابتسمت مرحبة بي بصوت ناعم لا يعكس ضخامة جسمها:
-مرحبا بك عندي أنا سعيد لخدمتك.
-شكرا
-أنت بحار.
-نعم أنا بحا ر
-من المغرب
-نعم
سبق ان قدمت خدماتي الي بعض البحارة المغاربة عندما كنت أسكن بحي الميناء.
ولمعت في ذهني كلمة الماماصان.
إذن الماماصان هي الباطرونا الله يحرق ليكم العظام يا أولاد الحرام .قلت بصوت مسموع
-اجلس علي الأريكة واستريح.
-شكرا.
جلست علي أريكة مغلفة بفرو النمر .في فناء ملون باللون الوردي وسط ديكورات خشبية جميلة وأضواء شموع كبيرة.امام طاولة عليها كرات من الكريستال وعلي الحائط ساعة زرقاء تشير الي الثامنة ليلا.
فتحت الماماصان باب دولاب زجاجي, وأخرجت زجاجة ويسكي فاخرة من نوع التيكيلا وملأت نصف الكأس وخاطبتني :
- بالثلج ؟
-لا بدون ثلج من فضلك.
الكأس ب خمسون دولارا فقط.
-هذا غير معقول .
-فقط بخمسون دولارا .
-تناولت الكأس الأولي وسكبتها في جوفي مرة واحدة .
ثم كأسا ثانية. فثالتة, ورابعة. حتي بدأت أعصابي في التراخي. وبعد لحظات نظرت إلي الماماصان وأشارت بسبابتها علي بائعات الهوي
-يمكن لك أن تختار أيها البحار أي واحدة لتخدمك
قلت مبتسما:
أريد تلك البيضاء الشقراء.
فنظرت في وجهي بعيون براقة :
الساعة فقط ب 300 دولار
-ماذا هذا كثير؟
-أصدقاؤك البحارة الذين مروا من عندي يدفعون بسخاء. ولا يتفاوضون علي السعر مطلقا .ثم إنك اخترت البنت الأجمل .سأوصيها أن تخدمك جيدا ونادت عليها :
-ليدي رافقي البحار الي الغرفة .
مرت ساعة السعادة مع الليدي بسرعة البرق. ناولت الماماصان الخمسمائة دولار. وإكراما منها أهدتني كأسا من النبيذ الجنوب إفريقي الفاخر ويسترن كيب. وقالت هذا في صحة كل أصدقائك البحارة .ثم ناولتني كأسا أخري من تيكيلا .فانتشيت أيما انتشاء. ولم يعد للمشاكل وجود. العالم جميل بالتيكيلا والماماصان. طلبت من الماماصان أن تتصل بسائق الريكيس. فوافقت مبتسمة. ركبت الرقم وبسرعة جاء السائق .خرجت إليه مترنحا أخذت مكاني علي مقعد الريكيس.وانطلق بي وسط الإضاءة المنخفظة للحي الهامشي . وكلما سألني سؤالا. أجيبه:
-جميل و جيد .
وحوالي منتصف الليل .عاد بي إلي شارع لونغ ستريت .ناولته 25 دولارا .فطمع في المزيد متحججا بظروف الليل .منحته 50 دولارا فانطلق وهو يقول: -وداعا أيها البحار
فأخدت أسير ببطئ علي رصيف الشارع. أتملي وأدقق في العلامات التجارية .و أركز نظري في السيارات الإنجليزية الكلاسيكية.فجأة نزلت لأقطع الشارع نحو الضفة المقابلة. ولم أنتبه لأصوات منبهات السيارات ورائي . مما اثار انتباه دورية للشرطة فجاء ضابط شرطة وطلب مني بكل أدب أوراقي فناولته ورقة المرور المؤقتة ثم ارجعها لي بسرعة وقال:
-انتبه لقد عرقلت حركة السير وخاطرت بحياتك.
مشيت طويلا علي جنبات المحلات التجارية مثل تائه. إلي أن سمعت كورال ينشد أناشيد هادئة وسط عزف موسيقي. فتوجهت نحو الصالة التي ينبعث منها هذا الصوت الجميل. دلفت الي داخلها فوجدت الناس جالسون في صمت. وهم يتابعون الحفل الموسيقي فجلست في كرسي شاغر انصت إلي صوت الموسيقي. والأناشيد النسوية التي تقابها الأناشيد الرجالية. وفي لحظة أطلقت صفارة إعجاب . مما جعل الجمهور الصامت يلتفت إلي دفعة واحدة بنظرات مشمئزة .فجاء رجل أمن خاص فسحبني من ياقة معطفي ودفعني بقوة إلي خارج الصالة وهو يقول:
-هذا قداس ديني وليس ملهي ليلي.
وفي كرسي من كراسي مقهي الدلافين وضعت راحتي أسترجع ذكريات البحر حتي غفوت .مع إشراقة الصباح وقفت علي جادة شارع لونغ ستريت مترقبا مرور سارة أجرة.ولحسن حظي توقفت سيارة أجرة لتنزل زبونا انجليزيا بلباس بلاد الغال. طلبت من سائقها أن يقلني إلي الميناء فوافق علي الفور.
وفي مقهي البحارة بالميناء حكيت لصديقي البحار الظريف رحلة البحث عن الماماصان فانفجر ضاحكا :
يجب ألا يعلم جيليت بقصتك هذه لأنه سيعمل منها مسرحية هزلية طويلة.
-كم خسرت
-500 دولار فقط أخذتها الماماصان
-هل جننت ؟عليك أن تعلم أن عملة جنوب إفريقيا هي الرند.
وكل البحارة الحنش والمقراج وغيرهم لا يخسرون نصف هذا المبلغ الذي صرفته.
ثم إن كثيرا من المامصانات موجودات قريبا من الميناء.
-أكيد زرت واحدة منهن أيها الظريف أليس كذلك؟
ابتسم الظريف قائلا:
-لابد من زيارة الماماصان.
-ولماذا لم تخبرني ؟
-لا أحب أن اشارك أحدا في مثل هذه المواضيع التافهة.
ماسم المامصان التي ذهبت عندها؟
-رولاماندي
-رولامندي أعرف هذه الجنية لقد وقعت جريمة قتل في بيتها عندما تشاجر بحارة رومانيين قبل 5 أعوام عندما زرت كيب تاون أول مرة لهذا أبعدتها السلطات .وأين هي الآن؟
-في حي نيانجا
-ماذا تقول يا هذا ؟ لقد خاطرت بحياتك وأنت تذهب الي ذلك الحي الهامشي.
انتبهت إلي يدي فاكتشفت أن خاثم الخطوبة الذهبي الذي اشتريته من متجر في الأرجنتين اختفي. والساعة الأنيقة التي كانت في معصمي والتي ابتعتها من سنغفورة ضاعت هي أيضا. وحتي تذكار مانديلا ضاع .ضيعت كل شيئ في بيت الماماصان .....نظر إلي البحار الظريف باندهاش وقال:
- احمد الله أنهم سرقوك ولم يقتلوك وأخذ يضحك دون توقف.