كان جدي ــ رحمة الله عليه ــ وهو يلمحني حيّن يكون مغادراً للبيت، أهوي بتلك العصا الغليّظة، على ظهر “حمارتِنا” العرجاء، المُعمّشةِ العينيّن، النحيلة البنيّة، والتي لا تقدر حتى على طرد الذباب المُتجمّهر فوق رأسها، بأذنيّها الطويلتين. ينبري سابّا إياي، وينعتني بأبشع النعُوتْ، ولولا رجلاي “الله يخلف عليهما”، وإن كان قد أمسكني، لنلّت ما ناله ظهرُ تلك “الحِمارة” المسكينة، التّي لا ذنب لها، سوى أني أفرغتُ فيها غضبي، لما وجدت جدتي تُقفل غرفة التلفاز، وتحّرمني من التلصُّص على الأجساد العارية، بقنوات “البورنو” الوحيدة التي كانت تشتغل ليل نهار . وحيّنما عجز عن الجري خلفي بسبب الوهن الساكن في ركبتيه، أطلق العنان لوصفي بالعفِن، والشمّكار، وقليل الترّابي، والموسخ.. جابراً خاطر “الحمارة”، بأن يختم سمفونية سُبابه:
رآها حسن من ميّة بحالك الخانز، ها العار غير تكون بنص خدمة هاذ الحمارة.
فيدخلها للزريبة بهدوء، و يفرغ لها نصف كيّس تبن أمامها كترضيّةً لخاطرها مني، و يُمسِّدُ على ظهرها الذي آلمته تلك العصى، و يتكلف بطرد الذباب الحّاط على ثقبي أنفها الواسعتيّن، و اللذان ظلا يسيّلان حتى ماتت . متوعداً إيايّ أنه إن أمسكني، سيردّ للحمارة كرامتها المهدورة بسبب تجنّي عليها، و إنزال بها ذاك العِقاب دون سبب وجيّه.
كان الحمار، و لازال، دائما منبوذا، و مَحْكُورْ، و يُتجنى عليه بدون سبب، و تُكال له التُهم جزافاً. و كلّما رغبنا في سبّ أحدهم بأقدح الصّفات، لا نجدُ أحسن من وصفه بالحمار، مع أن هذا الأخير، أحسن من وزراء كثر، وحكّام أكثر، ورؤساء مجالس بلدية، وقُوّاد، وباشاوات، وشيّخات، ومدرسين، ورُؤساء مصالح، وكارديانات، وموظفات، وعمّال، وولاة… فهو يشتغل “بنيّتو” وبلا كلّل.. ولا يتعلل “بسرتافيكة ميديّكال” للمرض كاذب. و لا يسرق البنزين.. ولا ينهب المال العام.. ولا يقبض الرشاوي مقابل أن يؤدي عملاً من المفروض أنه يقبض عليه أجراً. لا يتعلل بالتعب كي يتغيب.. ولا يكفّ عن أداء مهمته بكل جهد وتفاني. ولا ينصُب على “عباد الله”.. ولا يزوّر في المحاضر.. ولا يحكر على بائعة حلويات.. ولا ينزعُ سرواله في غرف نوم الغريبات.. ولا يهرب من مقر عمله قبل انتهاء الدوّام.. ولا يظهر في شاشة التلفاز يكذب علينا. ولم يسجّل التاريخ على حمار، أن غوى “حِمارةٍ” مقابل أن يشتغل بدلها، أو ينجز لها مهمة إدارية قبل غيّرها.
فالحمار، لا يمكن له سوى أن يكون فخوراً بأنه حمار، وليس بشراً خسيّساً مثلنا، اجتمعت فيه كل المساوئ، والخِداع، والكوارث، والسلبيّات، والتحّراميّات، والكذوب، والنفاق. وهو يعرف قدر نفسه، وأن صوته لا يصلح للغناء، لهذا لم يكتب التاريخ عن حمار أنه غنى، ولا أنشّدَ، مع أن نفس التاريخ، كتب عن بشر صوتهم أنكر من صوت الحميّر صاروا يغنون، ويقدمون أنفسهم للآخرين على أنهم “فنانون”، ولا يكفون عن ترديد مقاطع من “تاحيماريّت الحقيقية” كلما طلب منهم “غراب” برنامج تلفزي فعل ذلك.
فذاك الموظف ببلدية مدينة كرسيّف المنسيّة، الذي فقأ عيّن حمار مسكين، لا لشيء، سوى لأنه ضبطه يلتهم وروّد حديقة البلدية الذابلة، فما كان منه سوى أن وجه له ضربة لوجهه، كانت سببا في أنها تُطيّر له بؤبؤ عينه. فلو علم ذاك الموظف “لي ضرباتو النفس على ورد البلدية أكثر من أنها تضربو للقيّام بمشاغل الناس”، لو كان يعلم دور الحمار في الحياة، لجزّ له كل الورد، والحشائش، وحتى ذاك الحبَق النابت “بمحبق” قرب مكتب الرئيس، وقدّمها له وطلب منه أن يصفح للبشرية على كل ما تقترفه في حق الحميّر، و لصلى صلاة طلب الغفران تحت قوائمه، و لتوّسل أمام عينيّه أن يغفر للإنسان أخطائه اتجاه الحميّر. وعوض أن يفعل ذلك، انتصر ذاك الموظف “الحمار ديال بصاح” لأزهار البلدية، و التي لا يهم المواطن منها سوى جودة الخدمات، و تسريع عملية تسليم الشواهد، وسهر موظفيه على خدماتهم، و ليس سهر الليالي في البارات والمجيئ صباحاً مخموريّن و مُتأخرين، و يغلقون المكاتب قبل حتى أن ينتهي الدوّام. فالمواطنون يذهبون للبلديات لقضاء مشاغلهم، و ليس لشمّ عبقِ الورود.
ما اقترفه موظف البلدية ذاك في حق الحمار، عليه أن لا يمرّ مرور الجيّاع من قرب حفلات المُترفين. فكم من حمار الآن سيطلب اللجوء لدولة سيريلانكا، وربما، أنشأ جمهور الحمير صفحة فايسبوكية يطالبون فيها بأن تُفتح لهم الحدود، لأن كرامتهم، وعيّونهم، وتاريخهم النزيّه، صار مهدداَ في المغرب.. وسط هؤلاء البشر الخنازير.
فكلنا حمار كرسيّف، وعلى السلطات أن تقتص لذلك الحمار المسكين، وتزرع له عينا اصطناعية كي لا تصفه صديقته “الحمارة” “بالعوّر”. وأن تصدر وزارة الداخلية بيانا تندد فيه بذاك العمل الإرهابي الغاشم، وتُنكس عَلم المجلس البلدي الذي وقعت فيه الواقعة. ولكي يكون البيان منصفاً، وفيه الكثير من الواقعية، والاعتراف بالذنب. على الوزارة أن تدبّجه بعبارة..
يا ليـتنا كــلُّنا حمــيّر..