لكي يصبح الهلال بدرا…
عبد الحق الريكي
حدثني صديقي أحمد، قائلا: “في زمن الفعل النضالي الطلابي، من سبعينيات القرن الماضي، كنا نناقش بكثرة أطروحة على كل مناضل أن يُفعِّلها حيث يتواجد، مُلخصها أن من المهام النضالية تعبئة الشعب بكل الوسائل وتكتيل صفوفه حول مطالب ملموسة وموحدة والدفع به إلى خوض معارك من إضرابات واحتجاجات واعتصامات وتوقيع بيانات. الهدف الأساس من كل هذا هو أن تصطدم الجماهير بالدولة، حتى تقتنع بأن هذه الدولة لا تمثلها ولا تدافع عن مصالحها، بل هي دولة الطبقة الحاكمة ومصالح هذه الطبقة تتعارض مع مطالب الشعب ومن تم يتبلور وعي طبقي جديد للجماهير ككتلة (وليس كأفراد) لمواجهة الدولة والمُطالبة بالتغيير.”
ويسترسل صديقي في الحديث ، حيث يقول: “العالم تغير ونحن أيضا… تغيرت الكثير من المفاهيم والمصطلحات ولم نعد نستعمل في قاموسنا مثل هذه العبارات والأفكار. تذكرت كل هذا وأنا أتابع من الرباط، الحراك الشعبي السلمي بالحسيمة، وقلت مع نفسي أن ما وقع منذ استشهاد محسن فكري إلى ليلة قمع حراك الشباب، يُعتبر تجسيدا ملموسا لأطروحة السبعينيات، ذلك كون أجيالا جديدة وكثيرة من الشباب والشابات، اصطدمت بالدولة وبأجهزتها الأمنية (سابقا كنا نستعمل القمعية عوض الأمنية… هههه) وتبلور لديها وعي جديد (كنا نقول فيما مضى وعي طبقي… هههه). هذا الوعي في السابق كنا نعتبره انتصارا كبيرا وكان دور المناضلين فرز القيادات والعناصر التي أبانت عن صمود والتزام وتفاني في المعارك وذلك لمحاولة استقطابها تنظيميا للمنظمة أو الحزب وذلك في أفق بناء الأداة الطليعية للجماهير.”
توقف أحمد عن الكلام للحظة وابتسم وقال: “اندهشتُ من كوني ما زلت أحتفظ في ذاكرتي وعقلي بمقولات قديمة ثورية رغم أنني منذ زمان فارقت الثورة وانخرطت في الإصلاح، وأعتقد أن أصحاب الحال في كناشاتهم ما زالوا يعتبرونني من ديناصورات الماضي، لذا فإنهم لي بالمرصاد أينما حللت وارتحلت. فأنا ممنوع من الترقية وممنوع من المناصب وممنوع من الحقوق وممنوع وممنوع… رغم انخراطي لسنوات عديدة بأحزاب ونقابات معترف بها وكذا المشاركة في الانتخابات بالترشيح تارة والتصويت دائما والجهر بكوني يساري ديمقراطي إصلاحي مؤمن بالعمل من داخل المؤسسات القائمة.”
صمت أحمد، وارتشف قهوته وهو شارد في الأفق يفكر في طريقة الحديث عن ما يؤلمه أكثر من الممنوعات التي يتعايش معها منذ سنين. جمع قواه ونطق: ” لكن ما يحزنني وأنا البعيد عن صالونات أصحاب القرار، كون أصدقاء أعرفهم جيدا، ومن مختلف الاتجاهات، يساريين قدامى وحداثيي آخر ساعة وإعلاميين، يحاربونني وبكل الوسائل لدى أصحاب القرار والقيادات الحزبية المختلفة ومسؤولي الإدارة والمؤسسات، حتى لا “أتسلق” المواقع وأبقى سوى المناضل فلان وبس. المشكل أن بعض أصداء حربهم عليّ تصلني، ولا يعلم إلا الله الكثير مما يقولون حولي، في السر والعلن… أحزن تارة لموقفهم هذا، خاصة أنني، منذ انعزال العمل التنظيمي، أصبحت أدافع عن أفكار ومواقف، ولا عداوة لي مع الأشخاص والإطارات. والعديد من المرات لا أبالي بما يقولون ويفعلون، لأنني متيقن كونهم تنقصهم معلومة بسيطة لكن أساسية وهي كون هذا العبد الضعيف زاهد في الدنيا وملذاتها ولا يبحث عن غنيمة ولا جزاء ولا شكورا (حتى هذه سيؤولها أصحاب الحال كوني أرفض “امتيازات” الدولة… ههههه)”
توقف صديقي أحمد عن الكلام، ولاحظت عبارات الحزن على وجهه لأن أناسا اقتسم معهم فترات من الصداقة والنضال وآخرين لم يلتقي بهم في حياته يُروجون عنه أشياء غير صحيحة وذلك لتبرير وجودهم وأحيانا بحثا عن منافع ومناصب على ظهر الآخرين. هذا الأمر أعرف عنه الكثير لكوني وصديقي أحمد، تجمعنا علاقة صداقة متينة وقديمة، وتقاسمت إياه مرها وحلوها.
قلتُ لصديقي أحمد: “مشكلتكَ ليست في مواقفك السياسية، فأصحاب الحال يتعاملون مع الكثيرين من السياسيين من مختلف المشارب. أنتَ يصعبُ التعامل معك لسبب بسيط، “كونك لا تأكل ولا تترك الآخرين يأكلون” ولكونك معقول أكثر من اللازم وسريع الدفاع عن حقوق الآخرين والأهم المهم، تطبق حرفيا مقولة: “الإنسان يبقى قويا حتى يطلب شيئا لنفسه” وأنت كلما أتيحت لكَ فرصة طلب شيء، طلبتَ أشياء للآخرين وتركت وضعك جانبا. هذا هو حال الكثيرين وهو ما يجعل للنضال قيمة ومعنى ما دام هناك من يصمد للإغراء والبيع والشراء… وذَكَّرته بتدوينة فيسوبكية كنا ناقشنا مضمونها لمناضلة شابة سطرت على جدارها كلمات عميقة جاء ضمنها ما يلي: “أصحاب المبادئ والقناعات، لا يحبهم أحد لأنهم يشكلون مرآة الحقيقة التي تفضح الوجوه المشوهة للبعض وتعري حقيقتهم المبنية على التسلق ودْهن السٍير يسير وبَاكْ صَاحْبي وكُلْ وعْطِيني شْويَة مْعَاك. الشعب الحر هذا هو، في كل زمان ومكان، يخاف منه ويخشاه أصحاب الريع والسلطة، لذلك يتم التصدي له بأشخاص يبجلون كل ما هو فاسد ومفسد… والمطالب الشعبية لا تموت ولن تموت… وإسكات أصوات الحق بالعصا، علامة فشل ذريع للدولة لأنها لا تستطع احتواء الغضب الشعبي بتفتح وبحكامة… وكما قال شمس التبريزي (عاش في القرن الثالث عشر ميلادي): “لكي يصبح الهلال بدرا، فهو يحتاج إلى وقت”، والتغيير كذلك وكل واحد منا هو التغيير…”
كلمة لا بد منها: هذه خاطرة (ما بين الواقع والخيال) مهداة لشباب وشابات الحسيمة والريف والمغرب الذين يصنعون وعيا وتغييرا وتاريخا وأحداثا كبرى، أحيانا هم غير واعين بأهميتها كونهم منخرطون فيها ونظرتهم للأحداث ليست كنظرة المتتبع الخارجي…