لسنا أعداءكم… وإن بدا لكم الأمر كذلك قلم: عبدالقادر كلول
قلم: عبدالقادر كلول
قد يرى بعض الجزائريين فينا — نحن المغاربة — خصومًا أو أعداء، وقد يظنّ آخرون أننا نكيد لهم أو نفرح بمآسيهم، أو نعيش على نقيضهم. غير أن الحقيقة أعمق من تلك الصورة التي شكّلها خطاب العداء، وأشدّ تعقيدًا من شعارات تختزل التاريخ والجغرافيا في جملة واحدة. نحن لا نكره الشعب الجزائري، ولم نكن يومًا نُضمر له سوءًا؛ بل كنا وما زلنا نرى فيه شعبًا شقيقًا، ضحية منظومة فكرية مغلقة اختزلت الوطنية في العداء للمغرب.
الخصومة الحقيقية ليست بين شعبين، بل بين روحين: روح الأخوة والتكامل التي تسكننا، وروح الكراهية التي غذّاها خطاب العسكر لسنوات. من السهل إشعال العداوة، لكن من الصعب إيقاظ محبّة مفقودة بعد طول تحريض. ومع ذلك، نؤمن أن الأخلاق السياسية لا تُبنى على الكراهية بل على الوعي والمسؤولية التاريخية.
نحن ندرك أن الجار لا يُختار، لذلك نُصرّ على أن يكون هذا الجوار عنوانًا للتعاون لا التناحر. حين ننتقد “طغمة العسكر الفاسدة” لا ننتقد الجزائريين، بل نُحاول نزع القناع عن نظام صنع عدوًا وهميًا كي يبقى في السلطة. النقد هنا هو انتصار لأهل الجزائر قبل أن يكون نقدًا لنا.
نفهم الموقف العدائي لدى كثيرين كآلية دفاع نفسي جماعي — إسقاط الفشل على الخارج بدلاً من المواجهة الداخلية. حين يُحاصر المجتمع بالبطالة والاحتقان وتكبُّل الحريات، يصبح من الأسهل توجيه الألم نحو “عدو خارجي”. النظام الذي يستفيد من هذا النمط يصنع سردية تُلبسها شعارات الوطنية وتستبدل بها مواجهة الأخطاء.
هذه العداوة في جوهرها صرخة خوف من المواجهة مع الذات. لذلك حين نقول إننا سننقذهم من منطق العسكر، لا نقولها بتعالٍ أو شماتة، بل بدافع تحريرهم من عقدة الإسقاط ومن حاجتهم لعدو يبرر إخفاقاتهم. هذا التحرير هو عمل إنساني قبل أن يكون سياسيًا.
المجتمعات تُبنى على الثقة المتبادلة لا على أوهام العداء. المغرب، الذي اختار طريق الاستقرار والتنمية، لم يجعل من الجزائر شماعة لفشله، بل حافظ على مشهد الجوار رغم كل العقبات. بالمقابل، أعادت منظومة الحكم في الجزائر إنتاج نفسها عبر خلق عدو دائم يلهي الناس عن مطالبهم الحقيقية، فيتحول العداء إلى معيار زائف للوطنية.
ومع ذلك، روابط التاريخ والدين واللغة والعادات بين الشعبين أثبتت أنها أعنف من أي خطابٍ متصنّع. لذلك ما نقوم به من نقد وكشف ليس انتقامًا، بل محاولة لإعادة بناء وعي اجتماعي مشترك، وفتح مجال لصداقة فعلية مبنية على وضوح الحقائق.
حلّ مشكل الصحراء لن يمثل خسارةً لأحد، بل مفترق طريق لتحرّر يمتدّ إلى عموم المنطقة. إنه ليس تنازلاً بل ربح: ربح لجزائر تتحرّر من ثقل ملف أرهقها لعقود، وفتح لآفاق اقتصادية ودبلوماسية واجتماعية كانت محجوبة خلف جدار عداء طويل. إن إنهاء هذا الصراع سيمنح الجزائريين — كما سيمنح المغاربة — مساحة للتنفس السياسي والاجتماعي، ويوقِف آلة استنزاف الموارد والطاقة التي كرّستها صراعات وهمية.
حلّ الصحراء هو إذن تحريرٌ من عقدةٍ تاريخية، فرصة لإعادة الاستثمار في القضايا الحياتية: التشغيل، التعليم، الصحة، والبناء المدني. هو أيضًا ربح رمزي يعيد للعلاقات طابعها الإنساني: إنه فوز بالسلام النفسي والجغرافي، وانتصار في سبيل انعناق جميل بين الجيران يلتقيان على المصالح المشتركة والاحترام المتبادل. ليس نصرًا لأحد على أحد، بل نصر للمنطقة بأسرها.
ومن هنا تبرز حكمة جلالة الملك محمد السادس في مدّ يده البيضاء في كل مرة، رغم الجفاء الرسمي، ومخاطبة الشعب الجزائري بلغة الملوك الطافحة بالودّ والصدق والإخاء. تلك اللغة التي تتجاوز جراح السياسة وضجيج الإعلام، لتخاطب وجدان الشعب لا نخبه المتحجرة. إنها لغة من يدرك أن المستقبل لا يُصنع بالكراهية، بل بالتصالح مع الجار، وأن اليد الممدودة ستبقى ممدودة حتى تدرك الشعوب أن الأوطان لا تنهض على العداء، بل على الثقة في المصير المشترك.
لا نريد شكرًا مبالغًا فيه، ولا حجّة للافتخار، بل اعترافًا بسيطًا وواضحًا: اعترافٌ بأننا لم نكن عدوًا، وأن من روّج للكراهية هم من جرّوا الشعب إلى وهمٍ سحري للخروج من أزماتهم الداخلية. نريد أن يُرفع الغطاء عن الحقيقة، وأن يُسمح للمجتمعات بأن تُعيد تعريف نفسها خارج أسوار «عدوّية مُفترضة».
سيأتي يوم — لا محالة — يدرك فيه الجزائريون أن المغرب لم يكن خصمًا لهم، وأن الذين ادّعوا الدفاع عنهم كانوا أول من خانهم. حينها فقط سيكتب التاريخ بصدق أن المغرب لم يكن عدوًا، بل مرآةً أعادت للجار وعيه بذاته، ومفتاحًا لفتح صفحة جديدة من التعاون والأمان. وحتى يحين ذلك اليوم، سنظل نكتب ونناقش ونصبر، لأن الحقيقة — وإن تأخرت — تبقى قادرة على كشف المستور وإعادة الناس إلى رشدهم.
									 
			