لا أهلية للأحكام الأخلاقية لتقييم الإبداع
بقلم : محمد ناصر المولهي
هل حوكم امرؤ القيس وهو يقول في معلقته “وتحتي شقها لم يحوّل”، هل حوكم أبونواس وهو يصف امرأة تستحم في أبيات سبعة هي من أرق ما كتب في الشعر العربي، هل حوكم أبوالعلاء المعري وهو يقدم كوميديا سوداء ما قبل كوميديا دانتي عن الجنة والنار.
نضيف إلى ذلك كتبا عربية كثيرة حتى في غير الأدب تحدثت عن الجنس بطلاقة وجرأة كبيرتين، وأشهرها “الروض العاطر في نزهة الخاطر” للشيخ أبوعبدالله محمد بن محمد النفراوي، الذي يعد مرجعا مفصلا للثقافة الجنسية.
نضيف إلى ذلك ما ورد من أحاديث لعائشة عن علاقتها الزوجية مع الرسول، في كلام جريء وصريح.
ولا ننسى أيضا فن المنمنمات العربي، الذي قدم رسوما إيروتيكية، تصوّر حتى العلاقات المثلية.
كان الخطاب الديني والخطاب الفني الجمالي أكثر تحررا مما هما عليه الآن خاصة من حيث تناول الأقانيم الثلاثة للتابو العربي ألا وهي: الجنس والدين والسياسة، طبعا نحن لا ننكر تعرض الكثير من المفكرين والأدباء للتعذيب وحتى القتل لقاء جرأتهم في نقد هذه الأقانيم، لكن هذا كان عارضا وليس أصلا، خاصة وإن تأملنا في عدد المنجزات الفنية الجريئة.
إن الفن والإبداع هما خارج دائرة الأخلاق الاجتماعية المتعارف عليها، وهي أخلاق تتباين بين جماعة وأخرى، وفق معطيات تاريخية خاصة بكل جماعة، فما هو لا أخلاقي عند جماعة ما أو في بلدة ما، قد يكون أخلاقيا في منطقة أخرى محاذية، وهذه الأخلاق مختلفة وحتى متخالفة شأنها شأن اللباس أو المعتقد أو اللغة وغيرها. لذا لا يمكن تعميمها بأي شكل من الأشكال.
لا يعترف الإبداع بالأخلاق الاجتماعية الضيقة، فيما يسعى إلى تأسيس أخلاق كونية خاصة في خطابه الذي يسعى لأن يكون كونيا، لذا نجد الشعر العربي مثلا احتفل في غالبه بالإنساني، وبقيم تتجاوز الفهم القبَلي أو الاجتماعي الضيق، إلى قيم كونية كالحرية والحب والشجاعة والكرامة.. إلخ.
لكن بالمقابل هناك من الأدب مثلا الكثير من النصوص التي كانت تروّج لقيم مخالفة كالاحتلال مثلا، أو العبودية، وهنا نتطرق إلى مستوى ثان يحكم الأدب، هو تمرده المطلق لغاية خلق الجمال حتى من القبح وحتى من قيم تعتبر منافية للون الوردي الذي يتبناه الكثيرون حول القيم والأخلاق.
فجملة “لا تأخذ العبد إلا والعصا معه” للمتنبي أو رواية مثل “روبنسون كروزوي” لدانيال ديفو، أو شعر سون جون بيرس المؤمن بالتفوق العرقي الفرنسي، وغيرها الكثير من الأعمال الإبداعية، كانت منافية تماما لقالب الأخلاقوية، لكن هذا لم يمنعها من الصمود في وجه الزمن ومن أن تكون أعمالا أدبية مؤسسة ورائعة تتناقلها الأجيال.
هنا يمكننا أن نقر بأن الجوهر الأول للإبداع هو الجماليات، جماليات تستنبط مادتها من كل شيء تقريبا. أضرب هنا مثلا رواية “ربيع بزاوية مكسورة” لماريو بينيديتي، حيث يحدثنا عن خيانة زوجة لزوجها السجين، فيما نقف كقراء محرجين من أن نحكم إن كان هذا فعلا أخلاقيا أو لا، الحيرة هي ما نجح الكاتب الفذ في إكسائه لفعل يبدو مسلّما عندنا أنه لا أخلاقي. وهذه هي وظيفة الإبداع الحق أن يخلخل كل الأحكام المسبقة، مانحا الحياة إلى أكثر الأفكار والأجساد والرؤى جمودا ومواتا.
اليوم في عصر تجاوز الحداثة إلى ما بعدها، مازال العرب يحاكمون الكتاب والمبدعين، بتهم مضحكة، من قبيل ازدراء الدين، أو خدش الحياء، أو منافاة الأخلاق، أو التطاول على الذات الإلهية، أحكام قد يصل بعضها إلى التكفير والقتل. أياد سلطوية فاشلة تحاول أن تخنق كل نفس إبداعي، تكريسا للموات العام، وحفاظا على نفسها الجامدة خارج دائرة النقد والزمن المتسارع.
لا تجوز مطلقا محاكمة الإبداع بأي تهمة كانت، فوحده الفن هو من يحاسب الفن، لا غيره، أما الأحكام السياسية والاجتماعية فهي من باب لا يمكن وسمه بالرجعية فحسب، بل هي لا إنسانية مطلقا، فعل أعمى ضد شموس التاريخ، وكما هزم الفن الموت وصمد منذ ولادة الإنسان الأولى، سيصمد ضد المحاكمات الجاهلة، لأنه روح الإنسان الباقية ما بقيت هناك حياة، روح لا تمزقها رصاصة ولا تطالها سكاكين الرقابة وعنف الجهل.